منتديات الراية الفاطمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات الراية الفاطمية

بحب حيدرة الكرار مفتخري به شرفت وهذا منتهى شرفي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 سفر في الطريق إلى الله تعالى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الراية الفاطمية
مدير عام
الراية الفاطمية


عدد المساهمات : 584
تاريخ التسجيل : 28/05/2008

سفر في الطريق إلى الله تعالى Empty
مُساهمةموضوع: سفر في الطريق إلى الله تعالى   سفر في الطريق إلى الله تعالى I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 15, 2009 2:41 am

المحاضرة 1 : امتلاك همة السفر إلى الله تعالى



- إن الهدف من هذه المجالس أن يخرج الإنسان بتغيير جوهري في ذاته، وإلا فالذي يدخل الحمام ثم يخرج وآثار الدرن ما زالت على بدنه، يُعلم بأنه لم يستحم أو لم ينتفع من دخوله؛ لأن حاله قبل الدخول هي ذاتها بعد الخروج.. فدخول الحمام ليس مطلوباً فى حد ذاته، بل إنه يستلزم التخلص من الأدران العالقة بالبدن، ولهذا نلاحظ هذا التشبيه من النبي الأكرم (ص) حيث قال: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟.. قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا).
فالذي تمر عليه المواسم العبادية في شهر محرم وصفر، وفي موسم رمضان والحج.. دون أن يلمس تغييراً في هذه الروح -والتي شأنها أعلى وأسمى من ذلك البدن- ولم يطهرها من الشوائب والعوالق، مثله كمن يتناول دواءً طلباً للاستشفاء ولكن لا يجده مؤثراً.. والسبب فى ذلك أنه على شكل الدواء، وليس هو الدواء نفسه؛ وإلا كان مؤثرا.. فمن انتفاء الأثر نعلم أن المؤثر ليس هو الحقيقى منه.

- من المعلوم عداء الشيطان الأصيل لبني آدم، فهو لا ينفك عن الإنسان حتى يرديه قتيلا.. فلو أنه يئس من ارتكابه للحرام، تراه يلهيه ويخدره بالحركات العاطفية، ويلقي عليه البكاء والخشوع؛ مغفلاً إياه عن التحرك لتغيير ذاته، وما أن يتحرك للتغيير، فإنه سيجلب عليه بخيله ورجله، ويستنفذ كل طاقته وقواه؛ ليصده عن الحركة.. فالحركات العاطفية لا تهم الشيطان أبداً، ومن هنا تفنن الخوارج -الذين حاربوا أمير المؤمنين (ع)- في ذلك، فالشيطان أقنعهم بالحركات العاطفية والعبادية، وجعلهم في موقف عدائي وقتالي مع إمام زمانهم.

- من الملاحظ في عالم تكامل الأبدان، أن الإنسان ينتقل من مرحلة إلى أخرى بشكل قهري وطبيعي إلى أن يلقى الرب الكريم.. بينما في عالم الأرواح، فإن الحركة التكاملية اختيارية، والذي لا يتحرك ولا يبذل جهده سعياً لتحقيق تكامل روحه، فإن وضعه لن يتغير وسيبقى ثابتاً، فظاهره إنسان بالغ راشد، ولكنه في الواقع يحمل في باطنه طفلاً صغيرا!..
فما دام أن الدنيا ليست بدار قرار، والإنسان شاء أم أبى صائر إلى لقاء ربه تعالى، كيف يمكن له أن يستثمر هذه الفترة من الولادة إلى الموت، لتحقيق اللقاء الاختياري قبل أن يصير إلى اللقاء الإجباري؟.. كيف يموت قبل أن يموت؟..
إن هذا سفر، والمسافر يحتاج إلى دابة، وإلى زاد، وإلى خارطة طريق، وإلى رفقاء، وإلى التعرف على الأعداء والعقبات.. الخ من العناوين المفصلة والعديدة التي قد تناولها علماؤنا الأبرار.
ومع أن هذا بحث تخصصي يحتاج إلى دورات في مكان يعقد لهذا الغرض، ولكننا نعتقد أن مناسبة مجالس الحسين (ع) من أفضل المناسبات لعرض هذا البحث، وأعتقد أن هذا البحث بحث مناسب، وإن شاء الله يحقق الهدف من إقامة مجالسهم (ع).. وإلا فما الفائدة العملية فى أن نذكر الفضائل المجردة من دون برنامج عملي كمثل من يحفز شابا أعزبا فقيرا، لا وظيفة له ولا عمل له، ونفتح شهيته لأن يتزوج -مثلاً- من ملكة جمال العالم، وهو لا يملك المؤهلات الكافية!.. إذا أردنا أن نفتح شهيته، فلا بد أن نفتح له الطريق للوصول، وإذا كان هذا الطريق بعيداً فعلينا أن نذكر له مراحل الوصول.
وإذا كان عاشقاً حقاً فلابد أن يثبت عشقه، ويسعى بكل جهده، ليله ونهاره؛ ليكون على المستوى المطلوب الذي يؤهله للقبول.. وإلا فإنه سيواجه بالصدود والطرد.. ومن الطريف أن أحدهم نقل لى حوارية بين أم شاب فقير وأم بنت يطلبها ذلك الشاب، فاعترضت أم الفتاة قائلة: هذا الشاب عاشق مفلس!.. مما جعل كيان ذلك الذى يسمع الحوارية يهتز، وهو عالم من العلماء.. فإذن، ماذا نعمل لنخرج من واقعنا الذي نحن فيه؟..

- إن قوام السفر أمران:
أولاً: أن يعيش الإنسان حالة التأذي والتبرم من واقعه.
ثانياً: أن يتصور المتع واللذائذ البديلة.
فالإنسان الذي يعيش حالة الارتياح من وضعه في الحياة، ويقنع بحياته المستقرة من جميع النواحي، من الطبيعي أن لا يفكر في السفر.. وأيضاً فإن حالة الشوق وتصور الجمال في الهدف المقصود، يستلزم العزم وشد الرحال.
ولا خلاف في كون طبيعة الحياة الدنيا طبيعة مملولة، ومتعها متع محدودة وزائلة.. إن الإنسان يعيش في هذه الدنيا على أمل أن يحقق شيئاً، أو يصل إلى بغية ما، وهذا هو الذي يجعله يعيش الأنس، ويجعله يكدح ويتعب ويتحمل كل ما يتحمل.. ولكنه كلما تقدم به العمر يضعف هذا الامل، وازدادت وحشته ، فكم من الذين عاش معهم وأنس بوجودهم ثم ارتحلوا عنه، وحتى أدوات التلذذ لديه تضعف مع الزمن.
والغريب أننا نلاحظ أن للانتحار في المترفين، وفي أولاد المترفين نسبة عالية!.. لأن هؤلاء وصلوا إلى آخر الطريق، فالفقير يتعب ويكدح ليصل إلى الغنى، والشاب الأعزب يجاهد ويدرس ويتغرب على أمل ليلة الزفاف والزواج، والأم تتحمل تبعات الحمل وما شابه ذلك: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} على أمل ساعة ولادة الطفل.. أما الذي وصل إلى الغنى واستغنى، والذي تزوج وجاء بالأولاد، والذي استقر سكنه، والذي اشترى دابته، والذى استقر أمر معاشه كالمتقاعدين مثلا.. ما الذي يجعله يعيش الأنس في هذه الحياة الدنيا؟.. ورد في الحديث عن الرسول الأكرم (ص): الأمل رحمة لأُمّتي، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرا.
فإذن، آفة الدنيا أمران: الانقطاع والتمامية.. والثاني: بهجتها بهجة مملولة تزول مع الزمن والألفة ومن هنا قيل: لكل جديد بهجة!..
دخلت بعض البيوت التي أشبه بالقصور، ولكن لا تبقى فيها نصف ساعة إلا وترى كل شيء لا جاذبية له، وكأن هذا البيت كباقي بيوت العالمين لا تميز فيه.. ذهبنا إلى منطقة يقال أنها من أجمل بقاع العالم.. قلت لهم: هذا هو آخر جمال الطبيعة، هذا هو البحر الهادئ، أشجار النخيل الباسقة، الجبال العالية وهي مكتسية بالأشجار الاستوائية الجميلة، وهذا المناخ اللطيف، والنسيم العليل.. ثم ماذا؟.. هذا كمال للطبيعة لا لي أنا، أنا إنسان مسافر، إنسان متفرج أجتاز هذه المنطقة وأعبرها، ما الذي دخل في جوفي؟.. هذه الشجرة جمال للجبل، هذا الموج جمال للبحر، هذه الأزهار جمال للحديقة.. أنا راجع إلى وطني، وأترك كل هذه المناظر.
كنا في سفرة إلى بلد بعيد، اجتمعنا مع الطلبة، قلت لهم: تذكروا ساعة العودة!.. أنتم إقامتكم في هذا البلد الجميل أربع أو خمس أو ست أو سبع سنوات، ولكن سيأتى يوم الفراق إما بالموت، أو أنه فى يوم من الأيام ستركبون الطائرة وترجعون إلى بلادكم.. وهذه الأيام التي قضيمتوها في المتعة المحرمة، سوف تنتهي ولا يبقى منها إلا الحسرات (شتان بين عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره).

- إن الخطوة الأولى في هذا السفر تبدأ من لحظة الانقلاب والاستفاقة على الواقع الذي يعيشه الإنسان، فالذي يتأمل في نفسه ويعيش حالة التبرم وعدم الرضا، من المرجو له أن يتحرك ويبدأ سفره هذا.. مثله كإنسان خُدر وخُطف، وإذا به يستفيق ويرى نفسه والأعداء يحيطونه من كل جانب، فهذا من المتوقع أن يسعى لتخليص نفسه، ويبادر بالفرار ما أمكنه بكل جهده ووسعه وطاقته، حتى يبتعد ويصل إلى مأمنه.

- إن البعض قد يتعذر بعدم وجود الدليل والمرشد، والحال بأن صاحب الأمر (ع) في كل عصر هو المسؤول والراعي عن لهذه الأمة، وهدفه تنمية القابليات.. نحن نعتقد أن الإمام الحسين (ع) وصل إلى قمة السفر، وأخذ بيده أصحابه، وآخر قابلية نماها، هي قابلية الحر بن يزيد.. فهو بنظرة ملكوتية ولائية أنقذه مما هو فيه، وإلا فإن الحياة التي أمضاها الحر في جهاز الظالمين لم تكن تخوله لهذه النقلة، ولكن يقال بأن الذي جعله يترشح لكرامة ونظرة إمام زمانه، هو صلاته مع الإمام (ع)، واحترامه لمولاتنا فاطمة الزهراء (ع) عندما قال له الإمام: ثكلتك أمك!.. وإذا به يستنكف أن يرد بالمثل وإمامه ابن فاطمة (ع).. وعليه، فإن الحر الذي كان قائد جيش يقاتل إمام زمانه، والذي أرعب قلوب الهاشميات، رأى فيه الإمام الحسين (ع) القابلية، ونمى هذه القابلية بدعائه وبحركته وبقوله.. ومن المعلوم أن صاحب الأمر هو وارث الحسين (ع)، ونحن عندما نقول: (السلام عليك يا وراث أبا عبد الله) مخاطبين إمام زماننا، فعلينا أن نعرف أن هذه الوارثية ليست من ناحية الثأر لدمه فحسب!.. إنما ملكات الأئمة وكل ما يقال عن المعصومين، كلها مجتمعة في إمام زماننا (ع)، وهو راعي هذه الأمة.
وعليه، فإن الذي يقدم قرباناً ويقوم بحركة إيجابية، فإنه -بلا شك- سيكون في محط ألطاف الإمام صاحب العصر (عج) وعنايته، الذي إذا رأى القابليات المتميزة فإنه ينميها.. ويحسن ذكر هذه العبارة الجميلة لأحد العلماء الأجلاء: (إن الإنسان إذا صار مخلصاً وجاداً في الوصول إلى الله حتى الحائط يتحول له إلى أستاذ، وإلا لا تنفعه مواعظ النبي الأكرم (ص)).. فإذن، المهم على الإنسان أن يبدي صدقه ويثبت حسن نيته.

- إن تصور البدائل الأخرى من اللذائذ، من المحفزات التي تدفع الإنسان إلى السفر.. فالذي يضيق من حر الصيف في مقر سكنه، ويتصور جمال الطبيعة في مكان آخر، لا شك في أنه سيشد الرحال إليه، وإن كلفه الأمر آلاف الدنانير، فكيف إذا كان قد ذهب مسبقاً، ورأى بعينه ذلك الجمال؟!..
من المعلوم أن هناك نعيم أعد للمؤمن في الجنة من الحور، والغلمان، والقصور.. والأرقى من ذلك أن يصل الإنسان إلى مرتبة الخَّلاقية، يقول للشيء: كن!.. فيكون، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، وقوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}.. ومن اللطيف أن الإنسان عندما يدخل الجنة، تأتيه بطاقة تهنئة من رب العالمين: (من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي لا يموت).. ولكن هناك ما هو أرقى من ذلك كله!.. فالقرآن الكريم في آية أخرى يقول: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ}.. إن أهل الجنة ينشغلون عن الحور والقصور، بالنظر إلى جمال الوجه الإلهي، فما يعيشونه من النعيم المعنوي -الرضوان الإلهي- لا يقاس أبداً بذلك النعيم الحسي.
هذا النعيم -الذي يمثل أرقى لذائذ الجنة- بإمكان الإنسان أن يعيشه وهو في الحياة الدنيا، أي بإمكانه أن يصل إلى رحيق الجنة.. ولو أعطي إنسان هذا الرحيق، فإن الجنة لا يكون لها أملاً أو شوقاً كبيراً في نفسه؛ لأنه حصل على الفوز العظيم، الذي هو أرقى من الجنة وما فيها.. لهذا علي (ع) يقول ما مضمونه: جلوسي في المسجد أحب إلي من الجلوس في الجنة، لأن جلوسي في المسجد فيه رضوان ربي.
وقد يقول قائل: إنه إذا وصل إلى الرضوان الإلهي، فإذن ما القيمة المرجوة من الجنة؟..
الجواب: بأن للرضوان الإلهي درجات، قسم منه يُعطى في الحياة الدنيا، وقسم منه يعطى في الآخرة.. كموسى (ع) عندما كلمه الله -عز وجل- في طور سيناء: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.
نلاحظ أنه استمع للخطاب الإلهي بكل هدوء، واقتبس ناراً، ثم رجع إلى أهله نبياً.. ولكن في وادٍ آخر لما تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، موسى خر صعقا: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}.. فالتجلي هو التجلي، ولكن الشحنة رُفعت درجتها، وإذا بموسى يخر صعقا ، ومن المحتمل أنه لو زاد التجلي ، لفنى موسى من الوجود..
والإنسان بطبعه يحب الرحيق، فمع وجود هذه الثمرة الكبرى من هذا السفر، ألا يستحق أن يسافر ليصل إلى رحيق الجنة قبل الدخول للجنة؟!..

- إن البعض -مع الأسف- قد جعل المقامات والدرجات العليا حكراً على أصحاب الحوزات، وأهل النخب في المجتمع.. فإذا كان الأمر كذلك، فلمن يوجه هذا الخطاب الإلهي في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}؟.. وأمير المؤمنين (ع) من يعني في وصفه للمتقين: (فالمتقون فيها هم أهل الفضائل؛ منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع.. غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء.. ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب.. عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم..)؟..
إن الباب مفتوح للجميع، ومن أراد وصل حيث أنه -تعالى- لا يحتجب عن خلقه إلا أن تحجبهم الأعمال دونه، وكم هم الذين حققوا درجات من القرب الإلهي، وهم من العامة، من أهل الوظائف وغيرهم.. فلنفتح شهيتنا على هذه الدرجات، وأول زاد السفر إلى الله، هذه الهمة للخروج من هذا الواقع





عدل سابقا من قبل الراية الفاطمية في الخميس ديسمبر 22, 2011 11:11 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://krar-hidri.yoo7.com/profile?mode=editprofile
الراية الفاطمية
مدير عام
الراية الفاطمية


عدد المساهمات : 584
تاريخ التسجيل : 28/05/2008

سفر في الطريق إلى الله تعالى Empty
مُساهمةموضوع: رد: سفر في الطريق إلى الله تعالى   سفر في الطريق إلى الله تعالى I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 15, 2009 2:43 am

المحاضرة 2 : الزاد العلمي أول زاد السائر إلى الله تعالى


- ذكرنا بأن الإنسان -شاء أم أبى- في سفرة إجبارية على طريقٍ إلى لقاء ربه: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.
وما دام هنالك لقاء إجباري، لماذا لا يحول اللقاء الإجباري إلى لقاء اختياري، وهذا معنى: موتوا قبل أن تموتوا.

- إن منطق التمثيل منطق جيد لتقريب المعقولات، ومن هنا فإن علماء الأخلاق يشبهون المعقولات بالمحسوسات، كما في تشبيههم للحركة إلى الله -تعالى- بالسفر الآفاقي.. وهذا المنطق استعمله القرآن الكريم حتى في أدق المعاني التوحيدية، حيث يقول تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}.. وفي آية أخرى نلاحظ بأنه شبه الحياة الدنيا بماء المطر: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}..
فالإنسان الذي يريد أن يسافر ماذا يعمل؟..

- قلنا بأن أول خطوة يتخذها المسافر، هو تصور المتعة والأنس الذي يكمن في الجهة التي يريد الذهاب إليها، إما بنقل الآخرين لمعالم السفر، أو بسفراته السابقة.. ليحاول أن يوجد في نفسه دواعي الإثارة في هذا السفر.
والمسافر لابد له من الزاد، وقد كان المسافر في السفرات القديمة يحمل معه زاده الذي يكفيه، إن السفر إلى الله ليس بأقل من سفرة الحج، أو سفرة السياحة، أو ما شابه ذلك.. فما هو زادنا في هذا السفر؟..
إن الزاد الأول الذي لابد أن يتزود به المسافر إلى الله تعالى، هو الزاد العلمي.. من المعلوم أن في السيارات الحديثة جهاز مرتبط بالأقمار الصناعية، يمكن أن يوصل الإنسان إلى مقصده، بمجرد أن يضغط على زر تعيين الجهة التي يقصدها، ثم إن هذا الجهاز يسدده في مسيره، ولولا ذلك لتاه في الطريق.
ونحن رأينا كم هم الذين أمضوا شطراً من عمرهم، ثم اكتشفوا أنهم لم يكونوا على الطريق الصحيح، وإن ما كانوا عليه كان يقودهم إلى طريقٍ معاكس لطريق النجاة والسعادة.
فالذي يريد أن يصل إلى لقاء ربه، لابد أن تكون له خارطة ودليل، تبين له منعطفات الطريق وموانعه، والأعداء والأصدقاء.

- إن البعض قد يقول: هل معنى هذا أن يترك الناس وظائفهم وأعمالهم، ويهاجروا جميعاً إلى الحوزات العلمية، وتبقى المستشفيات بلا أطباء، والشركات بلا مدراء، والمشاريع الهندسية بلا مهندسين؟..
الجواب: هو أن الكمال كل الكمال، والفخر كل الفخر، أن يجمع الإنسان بين نشاطه الدنيوي -بأفضل ما يكون- وبين تكامله الروحي.. نحن لم نرَ بأن أصحاب الأئمة (ع) كانوا من المتفرغين لطلب العلم، أي كانت لهم حوزة علمية في زوايا المدينة أو الكوفة من أجل طلب العلم، فقد كانوا من أصحاب المهن: كميثم التمار، الذي كان يبيع تمراته، ثم يجلس على مائدة أمير المؤمنين (ع)، ويتعلم ذلك العلم الذي قاده إلى محل الصلب، وقد كان يلهج بذكر فضائل أمير المؤمنين (ع) إلى لحظاته الأخيرة.. ومنهم الزيات، والصراف.. فكلهم من أصحاب المهن، ومع ذلك فقد وصلوا إلى درجات عليا من القرب الإلهي.
وقد كان أمير المؤمنين (ع) من أكبر المزارعين!.. إذ كان صاحب آبار ارتوازية، يزرع ويكدح ويتعب، مع العلم أن لحظات من عمر علي (ع) تساوي عمر الخلق، ولكنه كان يصرف هذه اللحظات في عمارة الأرض، وما زالت أبيار علي (ع) -في ميقات مسجد الشجرة- تشهد على ذلك.. ومن المعلوم موقف الإمام الباقر (ع) من ذلك الرجل الذي تهكم عليه، عندما رأى الإمام (ع) وهو يعمل في المزرعة، وجسمه يتصبب بالعرق، وكأنه مشغول بالدنيا، إذ بيّن له الإمام (ع) بأنه في حال عبادة.. رأى محمد بن المكندر أبا جعفر الباقر -عليه السلام- خارجا إلى بعض نواحي المدينة في وقت حار وهو يتصبب عرقا، فقال له: إنك من أشياخ المدينة تخرج على مثل هذا الحال لطلب الدنيا، أرأيت لو جاءك أجلك وأنت على هذا الحال؟.. فقال -عليه السلام-: « إني لا أخاف أن يجيئني أجلي على هذا الحال وأنا في طاعة الله، أكف بها لنفسي وعيالي عنك وعن الناس.. وإنما كنت أخاف لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله». فمع استغراق الإمام في المعاني الإلهية فإنه كان يباشر تلك الأمور.
فإذن، ليس المطلوب الاعتكاف في المسجد، أو الرهبانية، أو أن يكون الجميع من رجال الحوزة.. وإنما أن يحاول -وهو في حركته في الحياة- أن يكون قلبه مع رب العالمين.. لي صديق هو كبير المهندسين وصاحب مشاريع كبرى، وقد كان يسر لي بعض أسراره، ويقول بأنه وصل -بحمد الله- إلى درجة أنه من خلال عمله الهندسي وانشغاله بتخطيط الخرائط الدقيقة، إلى أن يجعل قلبه مع رب العالمين طوال ساعات الدوام.. ومن الطريف أنه كان -بعض الأوقات- أثناء تنقله بين المواقع، تنتابه حالة معنوية، فيوقف سيارته في قارعة الطريق، ويحول الجو إلى جو مناجاة مع رب العالمين، ويشفي غليله ثم يكمل المشوار.. إن غاية سعي المؤمن أن يصل إلى درجة من التكامل، بحيث يتحول الذكر بالنسبة له إلى هواء يستنشقه.. ولو أنه نسي ذكر لله –عز وجل- فإنه يعيش حالة الاختناق، والذي يجعله يبادر إلى ذكر الله عزوجل، ليعيد الحيوية إلى قلبه وفؤاده.. فمثل هذا الإنسان لا يخاف عليه من الغفلة؛ لأنه كلما أراد أن يغفل، فان هذا الاختناق الباطني يدعوه إلى الذكر، مصداقًا لقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.

- والذين هم في سن مبكرة فليغتنموا الفرصة للحركة إلى الله كلٌ بحسبه.. وقد رأيت عيّنات من هذا القبيل، وممن هم دون البلوغ، ويعيشون في بيئ بعيدة عن الإسلام والمسلمين، وهم -مع ذلك- يحملون إصراراً بليغا ليكونوا من المتقربين إليه تعالى.. وقد ورد عن الرسول الأكرم (ص) أنه قال: « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ،‏ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّه،‏ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ،‏ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْه،‏ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ،‏ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ،‏ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».

كان أحدهم شاب مراهق ملتزم بصلاة الصبح خلفنا جماعة، ومن المعلوم أن صلاة الصبح فيها ضريبة القيام من النوم، والذي يواظب على صلاة الفجر بشكل عام وجماعة يعطى شيئاً من الهبات، وعادةً نوم المراهق يكون أثقل من نوم كبير السن، هذا الشباب كان ملتزماً إلى درجة أنه يوقظ نفسه للصلاة معنا حتى لو نام قبل الآذان بفترة قصيرة.. وفي يوم قال: لي بأنه غلب عليه النوم في الصلاة لدرجة أنه رأى في المنام تفاصيل ما عمل في الصلاة!.. نعم، كل هذا الإصرار لأجل أن يكون من المستيقظين.. ومثال آخر: كنا في مؤتمر في إحدى الدول الغربية، رأيت بعض الشباب المراهقين نائمين بغير غطاء في قاعة المؤتمر، أمهم قالت لي: أنهم ناموا بلا فراش حتى لا يغلب عليهم النوم، وتفوتهم صلاة الفجر معنا.
ولا يخفى مسؤولية الآباء، ودورهم في توجيه الأبناء وتربيتهم.. وهنيئاً لمن أوصل براءة الطفولة ببراءة التقوى: حرصاً، وعنايةً، ومراقبةً، ودعاءً.. فإن جزاءه -كما في مضمون بعض الروايات- بأن يحشر مع الأئمة العدول.. ومن المعلوم أن الذي يقدم قرباناً لله عزوجل، فإن الله –عز وجل- يحفظ له ذلك في ذريته، بأن يبارك له فيهم، ويجعلهم من أهل التميز والصلاح.
قبل فترة التقيت بوالد الطفل المعجزة، سألته: كيف أعطاه الله هذا الولد الذي أذهل العقول، وقد أعطي الدكتوراه من بريطانيا لما هو فيه من هذه السيطرة المذهلة على كتاب الله تعالى.. قال: بأنه كان هو وزوجته يعلمون أولاد المسلمين القرآن الكريم، وطلب من الله –عزوجل- أن يعوضه خيراً ويمنحه ذرية متميزة في المقابل.

- إن المسافر لابد له من الزاد، وقسم من هذا الزاد يأتي من خلال المطالعة والتثقف والإلمام الجيد بهذا المجال، ولهذا فمن المناسب قراءة الكتب الأخلاقية، وهي على نوعين:
النوع الأول: ما كتب في الرذائل والفضائل، مثل: كتاب: (جامع السعادات) للشيخ النراقي، وكتاب: (الطريق إلى الله) للشيخ البحراني، وهما من أفضل ما كتب في الأخلاق.
والنوع الثاني: ما كتب في سيِّر العلماء والأولياء، ومنه كتاب: (كيمياء المحبة)، الذي راج في الأسواق العربية وغير العربية بشكل ملفت.. ومن اللطيف في هذا الكتاب أنه يتناول سيرة رجل لم يكن من رجال العلم، بل كان يعمل خياطاً.. إن رب العالمين له طريقته في تربية عباده، وإذا رأى مادة قابلة في عبده فإنه يوصله إلى ذلك العلم الذي لا نفاذ له، وهذا هو القسم الآخر من الزاد العلمي، والذي يسمى بالعلم اللدني، أو العلم الإلهي، أو العلم الإلقائي..

- إن البعض قد يستنكر على أولياء الله انشغالهم بأمور الدنيا، والحال بأن الرسول الأكرم (ص) يحث على ذلك: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا..)، (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)..
فليس المهم أن يكون الرأس مشغولاً، وإنما المهم أن لا يكون القلب مشغولاً.. إن الذي يصل إلى هذه الدرجة من فراغ القلب، فقد حاز باللذة العظمى، وكان مصداقاً لوصف علي (ع) للمتقين: (وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى...).
ومن المعلوم أن من ألذ لذائذ العيش عند أهله، هو السجود بين يدي الله، ومن هنا فإن سلمان المحمدي -التلميذ الأول لرسول الله (ص)، وأفضل صحابي للنبي (ص) ، وأفضل راو للأئمة (ع)، والذي حاز على الدرجة الأولى، ويأتي في المرتبة بعد الأئمة الاثني عشر (ع)، وقد أعطي الاسم الأعظم- يقول: لولا السجود لله، ومجالسة قوم يتلفّظون طيب الكلام كما يتلفّظ طيب التمر؛ لتمنيّت الموت.. الأول في جانب الخالق، والثاني في جانب المخلوق.. إن السجود أيضاً من زاد الطريق، وليس المقصود به هذه الحركة الجسمانية: أن يضع الإنسان جبهته وركبته وإبهاميه على الأرض.. السجود له ملك وملكوت، وملكوت السجود سياحة في عالم الأنفس، والتي يشير إليها قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}.

- إن الإنسان بطبعه يحب الجمال، والوصول إلى القمة وإن كان محالاً، إلا أن التمني ليس حراماً، فلعل الله –عز وجل- يفتح عليه يوماً ويصل إلى مراده، وإن لم يصل إلى القمة، ولكن في الحركة بركة، وخير له من الجلوس في الحضيض، وفي الوديان السحيقة.. ولهذا نحن نلاحظ في المناجاة الشعبانية، أن الإنسان يطلب أمنية الأماني، ويا له من طلب غالٍ نفيس، حيث يقول: (إلهي!.. هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك..).. ولو أن هذه من أسرار أهل البيت (ع) ووقف عليهم لما وصلت إلينا بهذه السهولة.

- إن رب العالمين له طريقته في تسديد عباده وتوجيههم إلى ما فيه الصلاح والنجاة، وقد يصل إلى درجة التكليم الباطني، لا بمعنى التكليم الذي خُص به الكليم موسى (ع)، أو الوحي الذي كان ينزل به جبرائيل على الأنبياء (ع)، وإنما عن طريق الإلقاء في الروع.. فهنا رب العالمين يستعمل لفظة الوحي لامرأة عادية لم تكن بنبي ولا بوصي وهي أم موسى (ع)، وينسب الفعل إلى نفسه تعالى وليس بوسيط: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.. وفي آية أخرى نلاحظ أنه يستعمل كلمة الوحي حتى للحشرات: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}.. والإنسان شأنه أرفع من كل المخلوقات إذ أنه خليفة الله في الأرض، ألا يستحق أن يكون محلاً لألطاف الرب –تعالى- وتسديداته؟.. فعلى المؤمن أن يحاول أن يعرض نفسه لهذه المنحة الإلهية..
يتفق للإنسان بعض الأوقات وهو جالس، وكأن هناك من يقول له: قم من مكانك، واذهب إلى المجلس الفلاني!.. وهو ناسٍ لهذا المجلس.. فيذهب ويستمع من الخطيب كلمة تغير مجرى حياته.. من الذي أقامه من مكانه؟!.. ومن الذي ذكره بهذا المجلس؟!..
نقل لي أحدهم هذه الحادثة وهى أنه كان يمشي في شوارع أمريكا، وإذا به يرى أشرطة مرمية على الطريق، فدفعه الفضول ليرى ما فيها، وإذا بها محاضرة للخطيب الفلاني، إلى الآن هو لا يعرف تفسير هذا الأمر، ومن الذي جاء بها في هذا المكان.. فرب العالمين له أسراره، وله شؤونه في الخلق، أوصله بشكل ما إليه، وسمعه وتأثر به.
وقد ورد أن من يلتزم بهذا الاستغفار شهرين متتابعين أربعمئة مرة في اليوم، فإنه يعطى العلم الكثير أو المال الكثير، وأيهما حصل فهو غنيمة، وهو استغفار مجرب، فالذي يعمل به يفتح له فتحة من عالم الغيب: (استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، الرحمن الرحيم، بديع السماوات والأرض، من جميع ظلمي وجرمي وإسرافي على نفسي وأتوب إليه)..
جاءني أحدهم يقول: بأنه يسمع كأن صوتاً يحدثه في قلبه يرشده ويعلمه، وقال: أتحب أن ترى نموذجاً من أفكاري، اذهب إلى المنتدى الفلاني.. وفعلاً كانت له قرابة الألف مشاركة.. قلت له: ما السر؟.. قال: بأنه التزم بهذا الاستغفار ليس فقط شهرين بل سنتين، وإذا به يسمع ما يسمع، ورأيت أن ما يفهمه قد لا أفهمه أنا أيضاً، لأنه وجد له سبيل إلى ذلك العالم..

- ونقول أخيرا: إننا نلاحظ -مع الأسف- أن غالب الأفراد يمضون حياتهم في الغفلة والرضا بالواقع ، ولكن ما الذي هيأه الانسان لحياته الباقية؟.. وهل هو مستعد للموت لو جاءه الملك المقدس عزرائيل لينقله إلى ذلك العالم؟.. إن القرآن الكريم يتحدى اليهود بتمني الموت، ويقول بأنهم لن يتمنوه أبدا لما قدمت أيديهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.. نحن لم نقدم شيئاً يعتد به لآخرتنا، لم نقدم قرباناً.. إن من يريد أن يخطو أول الخطوات لابد أن يثبت شهادة حسن نية، إبراهيم (ع) قدم إسماعيل الذبيح، واسماعيل هيأ نفسه للذبح، الأنبياء والأولياء كل واحد قدم شيئاً يعتد به، ولو يملك الإنسان في حياته فقط موقف من مواقف المجاهدة مع رب العالمين كفاه هذا الموقف..
إن شاء الله سنذكر نقطة الانفجار، بأن يصل الإنسان إلى درجة ينقلب على واقعه، كالذي كان يسرق البيوت في الليل وينتقل من سطح إلى سطح، وإذا به يسمع تالي القرآن الكريم وهو يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}.. وإذا به يصيح: بلى قد آن!.. فتحول من سارق إلى عابد.. إنه بشر الحافي الذي تحول من مترف لا يعرف إلا المجون، إلى ولي من أولياء الله، ومن أصحاب إمامنا موسى بن جعفر (ع) فهل نحن متأسون بهم؟



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://krar-hidri.yoo7.com/profile?mode=editprofile
الراية الفاطمية
مدير عام
الراية الفاطمية


عدد المساهمات : 584
تاريخ التسجيل : 28/05/2008

سفر في الطريق إلى الله تعالى Empty
مُساهمةموضوع: رد: سفر في الطريق إلى الله تعالى   سفر في الطريق إلى الله تعالى I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 15, 2009 3:38 am

المحاضرة 3 : الإمداد الغيبي في حركة السالك إلى الله تعالى


- إننا نعتقد أن أغلب الناس يحملون في بواطنهم معادن نفيسة، ولكن -مع الأسف- هذه المعادن مجهولة، أشبه شيء -هذه الأيام- بالآبار النفطية.. فمن المعلوم أن النفط يحتاج إلى جهاز استخراج أولاً، ثم إلى جهاز تكرير ليصفى من الشوائب والعوالق، ثم يصبح بعد ذلك صالحاً ليكون وقوداً يصب في المحركات والسيارات.. والناس كذلك فى أن لأمر يحتاج إلى استكشاف واستخراج وتصفية؛ لكي تحول تلك المعادن المستبطنة إلى وقود يحركهم إلى الأمام..
والدليل على أن هذه الطاقات غير مستخرجة، أن الإنسان في شهر رمضان يرى في نفسه قوة لا مثيل لها طوال أيام السنة.. كنا في بعض البلاد وأقمنا إحياء ليلة القدر تقريبا من المغرب إلى طلوع الشمس.. هؤلاء الذين صبروا معي ما يزيد على اثني عشر ساعة في العبادة، هم من عامة الناس والذي لو ترك أحدهم وشأنه لنام في اليوم أكثر من أربع وعشرين ساعة، ولكن عندما يقع في ظرف متميز تراه يندفع للأمام.. وكذلك في موسم الحج نرى الحجاج في عشرة أو عشرين يوما، يستنفذون طاقاتهم لأجل أداء المناسك.. كنا في ليلة من الليالي في جمع قوم مترفين، وفي بيت يذكرنا بالترف المادي، واقترحنا على الإخوان أن نصلي لربنا بشكل جماعي خمسمائة ركعة، وفعلاً صبروا معي بتعب غير متعارف وأنجزنا ذلك بحمد الله..
رحم الله صاحب الغدير أي العلامة الأمينى يقول: (البعض قد يستنكر على علي (ع) أنه صلى ألف ركعة، والحال بأنه بعض أهل زماننا من أراد أن يقدم للرضا (ص) هدية فقدم له ألف ركعة في ليلة واحدة).. وأنا عندي مصدر موثق أن صاحب القضية هو نفسه صاحب الغدير، لم يحب أن يرائي فأخفى الأمر.. فإذن، طاقاتنا الحقيقة أكثر بكثير من طاقاتنا المستخرجة، وبعد الاستخراج تحتاج إلى تصفية، وهذه الجلسات من أجل معرفة كيف نصفي الطاقات الباطنية لتحول إلى حركة في الحياة..

- يقال بأن الحركة الإلهية شبيهة بالحركات الغرامية.. فمن المعلوم في غرام البشر بعضهم للبعض -هذا الذي نراه بين الشباب والفتيات- أن العشق البشري كماء البحر، كلما شرب منه الإنسان ازداد عطشاً.. الحب الإلهي يفوق ذلك بكثير، ومن مشى على الطريق وصل.. إذا كانت القاطرة خارج السكة فإنه لا أمل في الوصول، ولكن إذا جعلناها على السكة ولو بدفع خفيف فإن القاطرة تمشي؛ لأنها وقعت على الطريق..
أحد العلماء الأجلاء سمعته يقول هذا الكلام الجميل:
لو أن أحدهم تاه في البرية لسنوات لا يعلم أين وطنه، ولكنه وصل إلى مكان عال –مثلاً- ورأى البلدة من بعيد، فإنه يتنفس الصعداء، ويقول: قد وصلت، رغم أن بين مكانه والبلدة عقبات كثيرة، إلا أنه رأى المقصد، ورأى الطريق، وعندما يرى الهدف ويرى الطريق تهون عليه الصعاب.. ولهذا فإن رب العالمين عندما أراد أن يعاقب بني اسرائيل، فعاقبهم بالتيه في الأرض؛ عقوبة لهم على مخالفتهم لنبيهم.

- إن في علم الأخلاق مسلكين:
الأول: يبين لنا الفضائل والرذائل، وهذا الذي سلكه صاحب كتاب: (جامع السعادات) في كتابه القيم.
والثاني: يبين لنا ما هي آليات الوصول إلى هذه الفضائل والرذائل.
تارة يصف الإنسان الأطعمة الشهية في المطعم مما يسيل له اللعاب، ولكن أين المطعم؟.. وما الطريق إليه؟.. ومن أين يؤمن المبلغ المادي؟.. وكيف يدخل المطعم؟.. وأي الطعام يأكل؟.. وما هي المقبلات، وما هي المؤخرات؟.. فكل هذه آليات للوصول إلى المطلوب، وهذا لا يعني أن يستغني الإنسان بالثاني عن الأول، بل ينبغي في أول الأمر أن يتعلم الرذائل والفضائل، وهو بحث لا يحتاج إلى تعمق كثير؛ لأنه في باطن الإنسان وفي فطرته.. وإنما نحن نريد علماً يقودنا إلى الهدف، ويعلمنا من أين نبدأ، وكيف نبدأ، وفي أي مكان، وفي أي زمان، وما هي العوارض، وما هي الأمراض، وما هي العقبات.. وهذا الذي يعبر عنه بعلم الوصول إلى الله.

- لا شك في أن هذه الأبحاث مخالفة لمقتضى ميل الإنسان وطبعه الذى يميل إلى كل ما هو محسوس، وتحقيقها عملياً يحتاج إلى همة ومجاهدة ومخالفة للهوى.. ومن هنا نلاحظ أن البعض ارتضى بمجرد العمل بالفقه الظاهري: صلاةً، وصوماً، وحجاً، وخمساً.. دون أن يرى لما وراء ذلك أهمية أو ضرورة.. والحال بأن الله –عز وجل- في خطاب قرآني للجميع يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ اِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.. نحن مقصرون في أصل التقوى، فكيف بحق التقوى؟!.. وفي آية أخرى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}.. وهنا نلاحظ التهديد لمن لم يكن الله ورسوله أحب إليه من سواهما: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.. إلا أننا نلاحظ -مع الأسف- أن الإنسان عندما ينظر إلى قلبه، لا يرى لحب الله –تعالى- وجوداً في هذا القلب.. نعم، هناك اعتقاد بالله عزوجل، ولكن أين حب الأولاد من حب الله ورسوله؟!..

- نحن -كما قلنا- سائرون الى لقاء إجباري مع رب العالمين.. وحتى نعلم معنى اللقاء الإجباري والاختياري والفرق بينهما نضرب هذا المثال:
لو أن إنساناً له محاكمة في المحكمة، وهو في هذه المحكمة بين أن يعفى عنه، أو يحكم عليه بالإعدام، أو الحبس المؤبد.. فالذي هو طليق -خارج المحكمة- ويعلم تاريخ المحاكمة، فإن أول خطوة يتقدم بها، أن يصل إلى القاضي ويصادقه ويشاركه في تجارة أو في أمر ما، حتى عندما يتم اللقاء في المحكمة -مع فرض أن القاضي بيده كل شيء- يستفيد من قربه المميز منه، ويعفو عنه.. إن هذا في عالم القضاء في الدنيا، ونحن نقول: -شئنا أم أبينا- صائرون إلى ذلك اليوم الذي فيه توضع الموازين القسط: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}.. وحينئذ يكون الحساب دقيقاً، ويقول الإنسان: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}..
فلماذا لا نحاول أن نصادق القاضي الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، ومن السموات مطويات بيمينه، والذي له الخلق والأمر؟.. فإذا صار يوم القيامة فإن هذه العلاقة وهذا القرب في الحياة الدنيا سيشفع لنا كثيراً.. فإذن، هذه هي فلسفة هذا الحديث في هذه الليالي والأيام: كيف نصل إليه قبل أن نصل إليه؟.. كيف نموت قبل أن نموت؟.. كيف نحاسٍب قبل أن نحاَسب؟..

- لو أن الإنسان وصل إلى مرحلة اليقين بأنه سيقف بين يدي الله عزوجل، فهل يعمل ما يعمل إذا كان يوجب له السخط الإلهي والفضيحة يوم القيامة؟!.. إن القرآن الكريم عندما يصل إلى محاكمة بني آدم والبشر، يطرح آية جداً مخيفة، حيث يقول تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء}.
أي أن الله –عز وجل- يؤاخذ الإنسان حتى على ما يخفي في نفسه من النوايا السيئة، إن أخفى في نفسه حسداً، أو سوء ظن، أو شهوة.. فإن الله –عز وجل- يؤاخذه على ذلك بمعنى الإدانة على التصرفات القلبية، وهو ما دام لم يعمل بهذه النية السيئة فإن الله –تعالى- يعفو عنه.. وفي آية أخرى يقول تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.. ومن مصاديق خائنة الأعين: إنسان يمشي في الطريق مع زوجته، ويرى على يمينه امرأة فاتنة، فينظر إليها بطرف خفي -من زاوية عينه- خوفا ممن معه، العين تخون ولكن الناس لا يعلمون بخيانتها.. أو في جوف الليل حيث لا يراه أحد، يفتح ما يفتح من القنوات والفضائيات.

- قلنا بأن الزاد الأول الذي لابد أن يتزود به المسافر إلى الله، هو الزاد العلمي، وأن الإنسان الذي يسير على غير هدى، لا تزيده كثرة السير إلا بعدا.. وقلنا بأن هذا العلم على قسمين:
القسم الأول: علم حصولي يستفاد من بطون الكتب، ومن صدور الرجال.
والقسم الثاني:علم تفضلي وهبي.
ففى القسم الأول يمكن للإنسان أن يفرغ نفسه للمطالعة المركزة، ويأتي على أمهات الكتب الأخلاقية ليستوعب شيئاً من هذا العلم.. ولكن لا ينبغي الاستهانة بالثاني الذي هو ربط بين العبد وربه، وقد ذكرنا مثالاً على ذلك، وهو ما أوحى الله –عز وجل- إلى أم موسى (ع)، والتعبير صريح بأن هنالك وحي، ولم يذكر وسيطاً من نبي ولا وصي نبي ولا حتى ملك، فبالنسبة إلى مريم (ع) تمثل لها بشراً سوياً، وإنما بالنسبة إلى أم موسى (ع) هنالك وحي بمعنى الإلقاء في الروع.. وقد يقول قائل: كيف يسدد رب العالمين الإنسان في حياته؟..
الجواب: هنالك طريقان:
الطريق الأول: الإلقاء في الروع، والانكشاف الباطني، وعنده ينظر الإنسان إلى قلبه فيجد فيه معلومة لم يكن يعلمها من قبل، ذلك النور الذي يمشي به في الناس، مصداقاً لما ورد عن المعصوم: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله تعالى)!.. وقد رأينا في حياتنا القصيرة، من تنبأ بشيء أو قيَّم أحداً، وقوبل تقييمه وتوقعه بالاستنكار، ولكن الأيام أثبتت أنه كان على حق؛ لأنه كان ينظر بنور الله تعالى.. فإذا رأيت مؤمناً حقيقياً، وتفرس شيئاً، بأن قال: فلان يُخشى منه، أو فلان يُؤمل خيره، فاحتمل صدق ظنه..
الطريق الثاني: تصرف رب العالمين في عالم الوجود كرامة لعبده المؤمن..
إن رب العالمين إذا أراد أمرا فإنه يسخر كل ما في الوجود لخدمة عبده المؤمن، فلا ينبغي إنكار الكرامات التي ظهرت على أيدي الأولياء والصالحين.. وإن الذين يستنكرون الكرامة عليهم بمراجعة القرآن الكريم، فإن الله -سبحانه وتعالى- لعلمه بطبيعة الناس المنكرة لما وراء الغيب، وأنه سيأتي قوم ينكرون ما ينقل عن أئمة أهل البيت (ع) وغيرهم من الكرامات والآيات، جاء لنا بقصة سليمان وبلقيس، وذكر ذلك العبد الصالح الذي عنده علم من الكتاب، وكيف أنه أحضر عرش بلقيس في أقل من طرفة عين: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}.. ومن قبله ذلك العفريت الذي أراد أن يأتي بالعرش قبل أن يقوم سليمان (ع) من مكانه: {قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}.. فهذه كرامة جني، وكرامة عبد آتاه الله شيئاً من علم الكتاب.. فكيف بمن أوتي علم الكتاب: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}؟!..
ومن المعلوم قصة النبي (ص) في الغار والحمامة والعنكبوت.. إن الله -سبحانه وتعالى- يتصرف حتى في قلوب الكافرين: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.. والشاهد على ذلك ما جرى في معركة أحد، حيث أن المشركين بعد انتصارهم رجعوا مباشرة إلى مكة، وفي أثناء الطريق استفاقوا على حقيقة غريبة، وهي أنهم انتصروا ولكن لم يقتلوا النبي (ص)، ولم يدخلوا المدينة، ويأخذوا نسائها أسارى وإماء، حتى قال بعضهم لبعض: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب اردفتم!..
فهم بعد أن رجعوا في الطريق تذكروا بأنه سلب منهم العقل، فلو كان هؤلاء على عقلهم البشري؛ لأغاروا على المدينة الخالية من القيادة ومن شخص رسول الله (ص)، واحتلوا المدينة وهدموا المسجد.. فإذا كان يزيد (لع) أباح المدينة فكيف بهؤلاء؟!.. فإذن، رب العالمين إذا أراد أن ينفذ مشيئته، يتصرف في كل عوالم الوجود؛ ليحقق مشيئته في هذا الوجود..

- إن الزاد على نوعين، وقد ذكرنا النوع الأول وهو الزاد العلمي، أما النوع الآخر فهو الزاد العملي - زاد التقوى- والقرآن الكريم أشار إلى هذا الزاد في قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ}..
التقوى تُشعر بأن هنالك حالة من حالات الخوف، فالإنسان المتقي يعيش حالة الخوف، والذي لا خوف له لا تقوى له، ومن هنا يستشهد في كتب الأخلاق بهذا الشعر في وصف التقوى:

خلِّ الذنــوبَ صـغيرَها *** وكبيرها فهو التقى
واصنع كماشٍ فوق ارض *** الشوكِ يحْذرُ ما يرى
لا تحقــرنّ صــغيرةً *** انّ الجبالَ من الحصى

أقول: لو أن الشاعر كان في القرن العشرين، لذكر حقل الألغام بدلا من الشوك؛ لأن الشوكة تدمي ولكن اللغم يفتت الإنسان تفتيتاً.. فلو أن إنسانا كان يمشي في أرض الألغام، فإن عينه ستحدق على كل جسم غريب على وجه الأرض؛ لأنه يخاف أن يرديه قتيلا..
إن علينا استيعاب هذه الحقيقة، وهي: أن الشياطين تكيد كيدا مضاعفا بالنسبة إلى الإنسان المؤمن، وتفكر في ذلك اللغم الذي يناسبه: شهوةً، أو غضباً، أو طمعاً في دنيا، أو طلباً لرئاسة.. فالشياطين لها ألغامها المتعددة، وخاصةً من همَّ في السفر إلى الله تعالى ، وإلا فلماذا نرى بأن الذين يحبون الكمال وعشاق الوصل كثيرون، ولكن الواصلين قليلون؟!.. المشكلة هي أن أغلب الناس الذين يتحركون إلى الله يُلقى القبض عليهم، وتفتتهم الألغام وهم في أوائل الطريق؛ فالميل والرغبة عند الكثيرين موجودة، ولكن في أول الطريق يواجهون العقبات التي تصدهم عن السبيل.. فإذن، حقيقة التقوى أن يعيش الإنسان حالة الخوف من غضب الله –تعالى- والذي لا يعلم أنه متى يحل على العبد!..

- من المعلوم أن المؤمن الذي يُعطى بعض المنح الروحية، ثم يكفر بها بارتكابه لما يغضب الله عزوجل، فإنه يعرض نفسه لانتكاسات روحية خطيرة، حيث يصاب بإدبار شديد عجيب، وهذا الإدبار مجرب بعد المواسم العبادية: في محرم وصفر، وشهر رمضان، وموسم الحج.. وقد ورد في الحديث: "لا يزال على الحاج نور الحج ما لم يذنب".. فالإنسان عندما لا يراعي هذا النور الذي يُعطى في هذه الليالي والأيام، فإنه يسلب منه بثمن بخس، بذنب واحد أو زلة صغيرة مما يضيع عليه جهداً كبيراً، وليس معنى ذلك أنه طرد من رحمة الله عزوجل، ولكن هذا النور نور لطيف، هذا النور نور عزيز لا يعطى لكل أحد.. ولنتأمل في هذه القصة، فإنها حقاً مخيفة:
ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: إنّ يوسف (ع) لما قدم عليه الشيخ يعقوب (ع) دخله عزّ المُلك فلم ينزل إليه، فهبط عليه جبرائيل فقال: يا يوسف!.. ابسط راحتك، فخرج منها نور ساطع فصار في جو السماء، فقال يوسف (ع): ما هذا النور الذي خرج من راحتي؟.. فقال: نُزعت النبوة عن عقبك عقوبةً لمَّا لم تنزل إلى الشيخ يعقوب، فلا يكون من عقبك نبيٌّ.
إن يوسف (ع) سلب منه نور النبوة؛ لأنه لم يوقر أباه ذلك التوقير الذي ينبغي، وهو الذي ابّيضت عيناه حزناً على فراقه.. ومن الطريف أن هذا النور أعطي لأخيه بنيامين، الذي لم يكن فضله إلا أنه اقترح على إخوته بأن يلقوه في الجب (البئر)، بدلاً من القتل المباشر حتى يجعل مجال أمل لأن يبقى حياً..

- إن الذي تصور ذلك الجمال، وعاش في نفسه حقيقة التبرم على واقعه، ثم عزم على السفر، فإن أول خطوة يخطوها للأمام هو مراجعة الباطن.. إذ لابد لمن يريد أن يسافر إلى الله تعالى، أن يعقد مع نفسه جلسات ينظر فيها إلى كل منقصة في وجوده، في الجانحة والجارحة؛ ليكون مرشحاً للسير إليه..
وعليه بهذه الحركة العملية: أن يغتسل غسل التوبة، ثم يصلي ركعتين مقتصدين بتوجه، ثم يسجد مستغفراً سبعين مرة، فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد.. وللعلم فإن هناك سجود صلاتي فى الفريضة والنافلة، وهناك سجود يمكن أن نسميه سجود المحبة -سجود الاسترسال مع رب العالمين- وهذا السجود لا يحتاج إلى وضع الركبتين ورأس الإبهامين، فبإمكان المصلي أن يسترخي، ويضع صدره على الأرض، ويسجد ساعة وساعتين وثلاث وأربع ساعات حسب ما يحلو له.. كانت هناك شخصية معروفة في حوزة النجف باسم الشيخ المحقق الأصفهاني، أستاذ السيد الخوئي وغيره من الفقهاء والمراجع، كان بعض الليالي لعله يمضي طوال الليل في سجدة واحدة!.. نعم من علمائنا من كان كذلك..
فإذن، فليسجد سجدة مسترخية ويستغفر الله سبعين مرة، لما مضى من الآثام والذنوب، وعدد السبعين عدد مبارك استعمله القرآن الكريم.. وليحاول بعد ذلك أن يقرأ مناجاة التائبين بحضور قلب وشعور، فعندما يقول: (إلهي!.. أمات قلبي عظيم جنايتي ).. فليتصور الجناية، وعظمة الجناية، والإماتة.. (وألبسني التباعد منك لباس مسكنتي).. (إلهي!.. إن كان قد قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك).. ولعله يستفاد من بعض الروايات أنه لو دمعت عينيه ولو مقدار جناح بعوضة، فإن هذه -إن شاء الله- علامة القبول.

- ثم بعد هذه الحركة من التوبة لابد من العزم على عدم العودة إلى المنكر، وشد الهمة في السير.. وبهذا الخصوص، هناك بيت شعر وحديث مضمونهما واحد، وهو أن الإنسان إذا صمم شيئاً وصل إليه..
فأما بيت الشعر: وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
فمن الملاحظ في الجماعة الذين يذهبون للاستكشاف في أدغال الأمازون، وأعالي الجبال، والقطب الجنوبي وغيره.. أنهم يعرضون أنفسهم للموت والهلاك، من أجل تحقيق أهداف لا كثير قيمة لها، إذ أن همَّ أحدهم أن يصل إلى القمة، وتؤخذ له صورة تذكارية مثلا، ويضع علم بلده على القمة ثم يرجع!.. ما الذي تغير في عالم الوجود؟.. لا أدري!.. عرَّض نفسه للموت والهلاك؛ ليضاف اسمه إلى مئات الذين وصلوا للقمم في الجبال!.. ونحن لأجل الوصول إلى قمة الكمال وغيره، لا نبذل معشار ما يبذله هؤلاء في سفرهم.. أما الحديث يقول: (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية)..
نعم، هذه الهمة نعمَ الزاد لوصول السائرين الى الله تعالى، فإن المطلوب نفيس جدا ولا معنى أن يعطى الإنسان نفائس الوجود بما لا يليق مع تلك النفاسة!.




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://krar-hidri.yoo7.com/profile?mode=editprofile
الراية الفاطمية
مدير عام
الراية الفاطمية


عدد المساهمات : 584
تاريخ التسجيل : 28/05/2008

سفر في الطريق إلى الله تعالى Empty
مُساهمةموضوع: رد: سفر في الطريق إلى الله تعالى   سفر في الطريق إلى الله تعالى I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 15, 2009 3:40 am

المحاضرة 4 : اليقظة الروحية مقدمة للخروج على الواقع


- إن علامة قبول العمل: حجاً وعمرة، وصوماً وصلاة، وعزاءً.. ليس الترقب لمنام أو مكاشفة أو نور أو رائحة طيبة، وإنما هو حصول التغير الجذري في الذات، فمن رأى في قلبه اطمئناناً وإعراضاً عن المنكر ورغبة في الطاعة، فليعلم أنه على خير.. وإلا -كما قلنا- فإن الشيطان لا تخيفه هذه الحركات العبادية، وإنما الذي يخيفه هو مجاهدة النفس ومغالبة الهوى..
إن هدفنا من هذه الأحاديث، هو بيان معالم السفر الإلهي، هذا السفر الذي نحن فيه ونحن لا نشعر، أجسامنا وحياتنا في حركة قسرية إلى النهاية، والحال بأن الأرواح على حالها.. قلت لبعض إخواني كلمة قلبتهم وأثرت فيهم: وهي أن البعض صلاته وهو في سن الخمسين والستين، لا تكاد تختلف عن صلاته عندما كان في سن البلوغ، فمنذ يوم بلوغه إلى يوم وفاته صلاته على حد سواء.. ومعنى ذلك أن روحه لم تبلغ، ولا زالت روح طفولية، وأنه لا زال يعيش لا المراهقة بل الطفولة.. وكم من القبيح أن يبلغ الإنسان من العمر ما يبلغ، ويكون له بنين وحفدة، ولكن روحه -التي بها قوام الحساب والخلود- تكون روح غير بالغة..
إننا نرجو للجميع -الذين شاركونا في هذه الليالي والأيام- أن يخرجوا بهذا الجو المبارك، كخروج بشر في لقاء عابر.. والذي نراه في التاريخ أن بشر لم يلتقِ بالإمام موسى بن جعفر (ع) في تلك القضية، وإنما التقى بخادمة رأت الإمام المعصوم، ونقلت له قول الإمام، فقلبته رأساً على عقب.

- من المعلوم أنه لابد للإنسان الذي يريد الحج أو العمرة، أن يتطهر في الميقات وينزع الثياب الدنيوية المخيطة ويلبس ثياب الإحرام؛ ليدخل في الحرم الإلهي الأرضي.. وأن الإنسان المصلي بمجرد أن يكبر تكبيرة الإحرام، فإنه يحرم عليه ما يحرم من منافيات الصلاة.. إن الأمر كذلك بالنسبة لمن يريد السفر إلى الحق -تعالى- والدخول إلى ساحة العز الإلهي، أي أنه لابد أن يكون متطهراً، وهذا التطهر ليس إلا التوبة.. وقد ذكرنا أن من معالم التوبة هذه الحركة الظاهرية: من غسل التوبة ثم صلاة التائبين والاستغفار.
إن الاستغفار هو ورد المؤمن الدائم، وهو بمثابة الصابون والماء الذي يطهر الإنسان من الخبث والدرن ويخلصه من الأمراض، ومن دونه ينتفي تحقق الطهارة والنقاوة الروحية للمؤمن.. ومن المعلوم أن عملية الغسل لا تحتاج إلى نية؛ إذ أن الطهارة حاصلة ومتحققة بمجرد صب الماء على البدن.. إن الإنسان الذي يلتزم بالاستغفار، حتى لو أنه ارتكب ذنباً ثم نسيه، ولم ينوِ الاستغفار من هذا الذنب بعينه، فإن الطهارة متحققة.. ومن المحطات المهمة جداً للاستغفار محطتان في كل يوم وليلة:
المحطة الأولى: بعد صلاة العصر، حيث أنه يستحب للمؤمن الاستغفار سبعين مرة.. ونصيحتي أن لا يستعجل الإنسان القيام من سجادة صلاته، وأن يطيل الجلوس بعد الفرائض -ولو دقائق- ولكن بشرط أن يكون بمقدار شهيته.. وإن كان هو في أول الطريق قد يجلس دقائق، ولكن البعض يصل به الأمر إلى أنه لا يطيق القيام من المصلى؛ لما تأتيه من الواردات القلبية، ومن هنا وردت عن علماء الأخلاق هذه العبارة: (من لا ورد له لا وارد له).. فالإنسان الذي لا يتخذ محطة لذكر الله عزوجل -بالمعنى الدقيق للذكر- لا يأتيه المدد الغيبي.. ومن أفضل ساعات السياحة الأنفسية والتوغل في عالم الغيب، هو عقيب الفرائض.. فلو أن إنساناً يحيي الموتى -وهذا قمة الإعجاز والكرامة- ولكنه يعيش حالة الشرود والغفلة في صلاته، فإنه ليس بشيء.. إن الذي لا يقبل في الصلاة، فإن رب العالمين لا يقبل عليه، ومن لم يقبل عليه رب العالمين، لا وزن له في الوجود، فهبْ أنه يحيي الموت، إلا أن عدم إقباله في الصلاة علامة على بعده عن الحق..
والمحطة الثانية: في صلاة الليل:
إن الذي يريد الكمال لابد أن يكون بمستوى الهمة التي تهيئه للتكامل.. وليس المطلوب أن يصلي الإنسان صلاة الليل بالكيفية الواردة شرعاً، فمن المعلوم أن النبي (ص) كان يقطع صلاة ليله: يصلي وينام وهكذا.. كما لو أن إنساناً بيده قطعة حلوى، فهو لا يأكلها دفعة واحدة، بل تراه يقطعها قطعة قطعة حتى يطيل فترة استمتاعه.. إن أولياء الله وعلى رأسهم النبي المصطفى (ص) كانوا يقطعون الدخول على المولى عزوجل..
ولكن الذي يصلي صلاة الفجر في أول وقته ، ما الذي يضره أن يستيقظ قبيل الفجر بربع ساعة أو بعشر دقائق ويصلي ، ليتشبه بالذين يقيمون بالليل.. وإلا فإن قيام الليل معنى عميق، قيام الليل لقاء العاشق مع معشوقه، ومن هنا ذلك العالم كان ينادي في جوف الليل: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة!..
هناك لذائذ في جوف الليل تدرك ولا توصف لأهله، لكن نحن المبتدئين نتشبه بهم في ركيعات ثلاث: ركعتا الشفع، وركعة الوتر.. والذي لا يكلف نفسه هذا الأقل من صلاة الليل، فمعنى ذلك أنه لا يريد أن يتميز في حركته إلى الله تعالى، ويكتفي بالعمل بالرسالة العملية -بالفقه الظاهري- ولا حظ له بالفقه الباطني في شيء.

- إن الذين يقنعون بالققه الظاهري ولا يطمعون لما رواء الفقه، هؤلاء لا يصلون إلى جوهر العبادة.. أشبه شيء بمن يريد لقاء الملك، ولكنه يكتفي بالتواجد في ساحة القصر، ومراجعة ما يعرض في المكتبة من حياة الملك وسيرته وأوصافه.. فهو يبقى يحوم حول القصر دون التشرف بالمثول بين يديه.
على الإنسان المؤمن أن يطمع فيما هو أعظم من ذلك، ويسعى أن يصل إلى درجة يدخل ساحة العز الإلهي، ويحاول أن ينتقل من القشرة إلى اللب -من الملك إلى الملكوت- والذي عرف الدين من خلال اللب والملكوت، فهذا الإنسان لا يخشى عليه من الارتداد عن طريق الله؛ لأنه وصل إلى معدن العظمة: (إلهي!.. هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك؛ حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة).

- لنحاول أن نجعل أنفساً محلاً للألطاف والتجليات الإلهية.. إن رب العالمين ليست له صلة قرابة مع علماء الحوزات والفقهاء والمراجع، فمتى ما وجد القلب السليم فإن رب العالمين يتجلى في ذلك القلب كالمرآة.. ومن الملاحظ أنه كلما ازداد صفاء المرآة ونقائها من الغبار والكدر -هذا إذا لم يكن صداً- كلما كان انعكاس الأشياء فيها أكثر وضوحاً.. فلو وضعت مرآة أمام الشمس لانتقلت هذه الشمس العظيمة عبر هذه المرآة الصغيرة، وأصبحت تحمل خواصها إذ تكون قابلة للإحراق.. فإذا كان ذلك بالنسبة للشمس والمرآة، فكيف بالنفوس البشرية إذا واجهت شمس الوجود؟!.. نعم فإنها تصبح نفوس إلهية..
كنا في بلد ما وقيل لي بأن أحد الأشخاص جاء من بلد أوربي -إيطاليا- وهو حائر، ويعيش حالة الشرود والذهول، ويبحث عمن يحدثه ويحل له مشكلته، وقد كان حديث التعرف على مذهب أهل البيت (ع).. يقول: بأن رب العالمين فتح عليه باباً من أبواب الدعوة إليه بلا مناسبة وبلا إنذار سابق، ورأى نفسه مستذوقاً عالم الغيب -أنا احتملت أن يكون ذلك جراء تعرفه على مذهب أهل البيت (ع)، وتحمله لبعض الصعاب في هذا المجال- وبعد أن استذوق العبادة ورأى نفسه مقبلاً عليها بشكل رهيب، تلذذ بصلاة الليل إلى أصبحت صلاة ليله ست ساعات، لا يشبع من صلاة الليل، هو في النهار يكدح ويعمل ولكن في الليل هكذا.. وقال عبارة لعلي لم أسمعها إلى الآن من ولي ولا من عالم!.. -فرب العالمين -كما قلنا- ليست له علاقة نسبية بجهة ما، فهو عند المنكسرة قلوبهم والمندرسة قبورهم- وهو بأنه وصل إلى مرحلة عندما يقرأ القرآن الكريم، يحس بحس بحلاوة في فمه كحلاوة العسل، ليست حلاوة معنوية وإنما حلاوة حقيقية.. ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يجعل في فمه العسل يستهوي العسل، وإذا رأى بأن هذا العسل مقترن بكتاب الله يكثر من قراءة القرآن الكريم.. إن الذي يرى في جوف الليل لقاء مع المحبوب الأعظم، لا يمكنه أن ينام الليل، بل يكون مصداقاً لقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ }.. كلمة تتجافى مأخوذة من الجفاء؛ أي يجافي الفراش -يكره الفراش- الذي يصده عن قيام الليل.. ومشكلة هذا الرجل أن ذلك كله سلب منه!..

- إن من معالم التوبة -بالإضافة إلى الاستغفار اللفظي- استشعار الندامة الباطنية.. فالذي يعيش حالة الندامة مما مضى من حياته، من المرجو له أن يحول تلك الحالة إلى حركة إيجابية..
ولا ينبغي اليأس والاستسلام والوقوع في حبائل الشياطين والانصياع وراء تثبيطاته، فمن المعلوم -في عرف التجار- أن التاجر إذا رأى خسارة في تجارته، بأن فتح محلاً -مثلاً- في مكان غير مرغوب، ثم رأى أن ما يصرفه على هذا المحل أكثر مما يستورده، فإن إغلاقه للمحل بسرعة وإيقافه للخسارة ربح في حد نفسه.. وعليه، ليحاول الإنسان المؤمن أن يقف وقفة مع النفس لينظر إلى الماضي.

- إن البعض قد يصل إلى درجة من الاستغراق والأنس بالحق تعالى، أنه لا يرى لنفسه محوراً في الوجود، فينسى نفسه ووضعه وذنوبه، ويعيش الظلامة الإلهية.. بأن الرب -تعالى- زبائنه قليلون، وذكره في الخلق قليل، لا أحد ينصر دينه، دينه بدأ غريباً وعاد غريباً.. أحد الأولياء يقول: بأن أهل البيت (ع) لهم زبائن كثر، بينما رب العالمين ليس هنالك من يرغب فيه كرغبته في خلقه، فجل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد.. وهنالك بعض الآيات التي تصلح للبكاء على وضع الناس وتعاملهم مع رب العالمين..
إن رب العالمين في كتابه الكريم يعاتب بني آدم عتاباً بليغا، فيقول تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.. لو أن الإنسان يقرأ هذه الآية في جوف الليل، ويحولها إلى مناجاة مبكية، فهو في قمة الرضوان الإلهي.. وفي آية ثانية يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم }.. ويقول في آية ثالثة: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}.. فالذي يتأمل في مضامين هذه الآيات، من المتوقع أن توجب له هزة في الأعماق..
كنت أمشي مع أحد العلماء فاقترحت عليه أن نتأمل في هذه الآيات، وإذا بهذا العالم -وهو عالم كبير- يرتبك ويتغير حاله، فذهب إلى مدينة أخرى ليعتكف ويفكر فيما هو فيه!.. وبعد فترة التقيت به وسألته عن سبب تركه لبلده ، فقال: بأن وضعه كله انقلب، وصار يفكر أنه أين، وما هو مطلوب منه!..
هذه الثورة الباطنية يسمونها في عرف الأخلاقيين: (حالة اليقظة).. والقضية ليست متوقفة على السن، وقد رأيت من هو في سن مبكرة ويعيش هذا الشعور.. كيف لو أن إنسانا كان نائماً على الرمل جانب الشاطئ، واستيقظ وإذا بأمواج تأتي عليه ويوشك أن يغرق.. فهذا الإنسان عندما يستيقظ فإن يقظته تلازم الحركة عادة.. وهذه من أثمن ساعات العمر.. ليالي القدر ليست بالإحياء الشكلي.. إذا كان الإنسان في جزر هاواي أو تحت نخيل جوز الهند وانتابته هذه الحالة من اليقظة، فتلك ليلة قدره فليحاول أن يحتفظ بها..
إن رب العالمين يعطينا هذه المنحة في الحج والعمرة وفي مواسم الذكر.. في أيام عاشوراء ما الذي يجذب الناس إلى مجالس أهل البيت (ع) لولا هذه اليقظة الخفيفة؟.. فلنحاول أن نشدد من هذه اليقظة، لنخرج بعد الموسم العبادي بقرار حاسم، ألا وهو الندامة من الذنب..

ما هي موجبات الندامة من الذنب؟..

- من موجبات الندامة الباطنية: الوصول إلى ملكوت الحرام.. والقرآن الكريم أراد أن يفهمنا أن للحرام باطن خفي -هذا الباطن الذي لو انكشف للإنسان، لكان الانزجار من الحرام قهري -فطرح بعض الأمثلة لملكوت الحرام ومنها الغيبة، حيث يقول تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ }.. أحد علماء النجف الأشرف كان متورعاً عن الغيبة أيما تورع، ولكنه في يوم من الأيام تورط باستماع الغيبة، فرأى في عالم الرؤيا نفسه وهو يأكل لحم الميتة، ولما استيقظ وجد هذه القطعة في فمه، فلفظها ولكن الرائحة النتنة بقيت في فمه، مما جعله حبيس المنزل لأشهر، وبعد الاستغفار والتي واللتيا، رب العالمين كشف عنه هذه الرائحة..
ولو كشف الغطاء عن الإنسان لرأى مع كل معصية رائحة نتنة لا تطاق، وقد أشار أمير المؤمنين (ع) إلى تلك الحقيقة بقوله: (تعطروا بالاستغفار، لا تفضحنكم روائح الذنوب).
وإن من أسخف أنواع الحرام الغيبة، عادة أن المحرمات فيها لذائذ، ولكن الغيبة ما اللذة فيها؟!.. لا لذة محسوسة، ولا مطعومة، ولا مشمومة.. ولهذا التشديد عليه شديد، وفي مضمون بعض الراويات أن الغيبة أشد من الزنا، ولكن مع الأسف أن بعض الناس يذهب إلى حتفه برجله، ويحضر المجالس الغافلة، التي ليس فقط لا فائدة يرجى منها، وأنها فضول كلام وفضول نظر، وإنما يرجع بتبعات الآخرين!..
وفي آية أخرى يذكر القرآن الكريم ملكوت الذين يأكلون أموال اليتامى، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}.. وهنا يذكر ملكوت الإنسان المرابي: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}..
إن الربا من المحرمات، ولكن الفقهاء تيسيراً للمؤمنين، ذكروا بعض المخارج الفقهية لمن أراد أن يستقرض.. فحري بالإنسان المؤمن أن يحتاط في أمور دينه، ويسأل عن أحكام الربا وكيفية التخلص من مجهول المالك وغيره.. فإن من موجبات قساوة القلب -هذه الأيام- والابتلاءات والأمراض، هذه الأموال المحرمة التي تقع بين أيدينا.

- من موجبات الندامة أيضاً: عدم مجالسة الغافلين..
إننا نلاحظ هذه الشكوى المتكررة من أغلب المؤمنين، وهو أنهم يشحنون أيما شحن حال كونهم في المجالس أو عند قراءة كتاب ما، ثم ما تلبث هذه النفحات أن تذهب أدراج الرياح، فكيف يمكن الاحتفاظ بهذه المكاسب المعنوية في جوف الليل، وفي المجالس، وفي حركة النهار؟..
إن هذا الأمر صعب جداً، وخاصة للذين ابتلوا بالتعامل مع الجنس المخالف في عملهم؛ فإن من موجبات قساوة القلب كثرة الحديث مع النساء الأجنبيات، والتفكه معهن، والنظر إليهن بريبة.. أحد العلماء الأجلاء يقول: (أنا لا أفهم كيف تقسمون النظر إلى المرأة الجميلة نظرة بريبة ونظرة بغير ريبة؟!.. النظر إلى الجميلة مناسب للنظر بشهوة).. وقد يقول إنسان: أنا أنظر إلى جمالها كما أنظر إلى جمال الوردة، هذا خلق من خلق الله تعالى، أعتقد أن هذا من أشد أنواع تلبيس إبليس.. ومن المعلوم أن الشيطان قد يلهي الإنسان عندما ينظر إلى المناظر المحرمة، ويعطيه جوا روحانيا، ويشغله ببعض القضايا الإلهية كالتسبيحات وغيره، وما إن يريد هذا الإنسان الصلاة إلا وهذه الصور تترادف عليه واحدة بعد أخرى.. أحد الإخوان كان يؤم الناس يقول: أنه ابتلى ببلية قبل سنوات، وهي أنه نظر إلى أجنبية نظرة كذائية، وهذه الأجنبية ذهبت، ولكن الصورة بقيت في باله، وكلما أراد أن يصلي جاءته هذه الصورة في البال.. وكأن الله -عزوجل- أراد أن يعاقبه بمثل ذلك..
ليحاول الإنسان أن يترقى من ترك الحرام إلى ترك فضول القول وفضول النظر -الكلام الذي لا داعي له، النظرة البلهاء- إنسان يذهب إلى السوق ليشتري متاعاً، فلماذا يكثر النظر من المتاع الذي لا يريد أن يشتريه؟!.. فهذا الفضول أيضاً من موجبات قساوة القلب.

- إن طبيعة النفس الإنسانية طبيعة متمردة، ومن المعلوم أن الشيطان يسول للإنسان ويجعله متثاقلا ومتكاسلاً، وقد يقول للبعض: أن هذا الكلام كلام غير قابل للتنفيذ ، ومعنى ذلك أنه يصبح راهباً وزاهدا، وتصبح متع الحياة كلها محرمة عليه.. ليحاول الإنسان المؤمن أن يخادع نفسه، ويخصص له مدة زمنية محددة، يكون في هذه المدة متميزاً، فإن النفس الإنسانية تنبعث بذلك.. ولهذا الإسلام جاء بشهر للصيام وحث على الالتزام فيه، وجعل أيام معدودات في موسم الحج، ليحاول في هذه الأيام المعدودات أن يصبح إنساناً نموذجياً..
ومن أفضل أنواع الأربعينية، أربعينية ترك المعاصي والذنوب.. نعم، زيارة عاشوراء، وآل ياسين، والعهد، ووارث، وغيرها.. كلها أشياء جيدة كأربعينية.. ولكن لنحاول أن نجعل هذه الأربعينية خير أربعينية مرت علينا، وقد ورد في الحديث عن الرسول الأكرم (ص): (من أخلص لله أربعين يوما، فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه).

- من الجميل أن يصل الإنسان إلى مرحلة ينسجم فيها وجوده مع ما هو مطلوب منه شرعاً.. البعض من جماعة التدخين عندما يتركون التدخين، ففي أول الأيام تصعد رائحة النكوتين إلى الفم، ولكن بعد فترة من المقاومة يصبح وجوده وجوداً نقياً.. إن الذي فُتحت له أبواب الغيب هل يرجع إلى المزبلة؟!.. إن البعض من الشباب وصل إلى درجة من درجات الورع والتقوى، أنه عندما يرى امرأة أجنبية، وكأن هنالك جهازا حديديا يلف رقبته يميناً وشمالاً، فإن الحركة ارتدادية قسرية، فهو لا يطيق النظر، ولا يحتاج الأمر أن يفكر بأنها نظرة جائزة أو غيره.. والبعض منهم يصل به الأمر -إذا أكل طعاماً حراماً من غير قصد- أن معدته تتقيأ هذا الطعام الحرام ولا تقبله.. نعم يصل الإنسان إلى هذه الدرجات، التي يصبح فيها وجوده منسجماً مع موجبات التقوى والورع....




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://krar-hidri.yoo7.com/profile?mode=editprofile
الراية الفاطمية
مدير عام
الراية الفاطمية


عدد المساهمات : 584
تاريخ التسجيل : 28/05/2008

سفر في الطريق إلى الله تعالى Empty
مُساهمةموضوع: رد: سفر في الطريق إلى الله تعالى   سفر في الطريق إلى الله تعالى I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 15, 2009 3:41 am

المحاضرة 5 : عقبات السفر



- لاشك أن الاستماع للمواعظ التي تلقى هذه الأيام والليالي في مجالس أهل البيت (ع) -وبالأخص في العشرة الأولى- يختلف عن باقي الأيام والليالي؛ إذ أن معها دفع من عالم الغيب، كالسفينة الشراعية التي تبحر في البحر، ولكن الأمواج والهواء تدفعها إلى الإمام.
ومن الملاحظ -هذه الأيام- وجود حالة العطش لتقبل المعارف والمعاني الإلهية، وهذه ظاهرة غير طبيعية، فالمجالس -بحمد الله- تزداد في كل سنة، والجمهور يزيد بشكل ملفت، وإن هذه -إن شاء الله- من علامات البشرى لظهور إمامنا (عج)، حيث أصبحت القلوب تقبل على أهل البيت (ع) وعلى الإسلام الصحيح.

- قلنا بأننا في حال سفر قهري منذ أن سقطنا من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئاً، وقد أشار أمير المؤمنين (ع) إلى هذه الحقيقة حين قال: (أوله نطفة قذرة، وآخر جيفة نتنة، وهو فيما بينهما يحمل العَذِرَة).. فهذا هو السفر الظاهري -السير البدني الذي نحن صائرون إليه -حيث يبدأ الإنسان من نطفة، وأما نهايته فجيفة لا تطاق.. وبموازاة هذا السير الأرضي هنالك سير سماوي.. وقد يقول قائل: من أين جئنا بهذا المصطلح؟.. إن القرآن الكريم كله يضج بالدعوة إلى هذا السفر، كقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.. فمن الواضح أن الفرار إلى الله أبلغ من السفر، فلو أن إنساناً كان في مبنى يعج بالنيران، فإنه يحتاج إلى فرار وإلا لالتهمته النيران!.. فإذن، نحن في الواقع نحتاج إلى فرار من عالم المادة إلى عالم الملكوت..
وفي آية أخرى يقول تعالى: {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}.. فالسبيل هو الطريق.. وهذه من أروع آيات القرآن الكريم {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}.. ولها عدة وجوه، ومن وجوهها: أن الذي عزم على السفر إلى الله تعالى، فإن رب العالمين يقتصد له السبيل -أي يختصر له المسافات- ومن هنا ورد عن أهل البيت (ع) قولهم: (وإن أفضل زاد الراحل إليك، عزم إرادة يختارك بها).. ولكن المشكلة أننا لم نختر الله عزوجل.. فلابد للإنسان المؤمن أن يأخذ القرار للفرار، وكلما تأخر فإنه هو الخاسر.. فالذي ينام في الطريق، فهو عندما يستيقظ ويمشي، فإنه يصل لأنه على الطريق ولكنه يصل متأخراً.. فكلما عزم على تعجيل هذه الحركة فهو الرابح.. (وإنك لا تحتجب عن خلقك، إلا أن تحجبهم الأعمال دونك).

- قلنا بأن الزاد الأول: هو الزاد العلمي، وأن الإنسان الجاهل السائر على غير هدى لا تزيده كثرة السير إلا بعداً.. وأن الزاد الآخر: هو التقوى، أي أن يعيش الإنسان حالة الخوف من غضب الله عزوجل..
إن أحد مراجع التقليد الذين توفاهم الله عزوجل، وكان معروفا من بين المراجع ببعده الأخلاقي وبكراماته، نقل لي ولده عنه هذه القصة:
أنه في ليلة من الليالي رأى والده يعيش حالة الاضطراب والقلق الشديد، إلى درجة أنه لم يتجرأ أن يسأله عن السبب، إلى أن طرق الباب طارق وقال بأنه طالب علم يريد أن يلتقي بالسيد، ولما خرج وإذا بالسيد متهللاً، وقال: بأنه كان يعيش حالة القلق هل أن إمام زمانه راضٍ عنه أم لا؟..
إن هذا الخوف وهذا الهاجس سلب منه الرقاد والراحة، فهل فكرنا يوماً بأنه هل أن الله عزوجل راضٍ عنا أم لا؟.. هل فكرنا بأنه هل نحن على الجادة المستقيمة؟.. (رحم الله من عرف من أين، وإلى أين، وفي أين)..
نحن إلى أين وصلنا؟.. هذا الرأسمال الذي أخذناه من رب العالمين فيما صرفناه؟.. ورد في الحديث عن الرسول الأكرم (ص): (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به ).. إن الإنسان -بعض الأوقات- إذا فكر في هذا المجال فإنه سيسلب منه الراحة والنوم، ولكن ليسلب منه النوم ليلة أو ليلتين، وليعش ما يعش من صراع نفسي، ولكنه سيخرج بعدها بقرار.

- من عقبات السفر: التحلل من مظالم العباد..
إن البعض ممن يعطى بعض النفحات الإلهية وتفتح شهيته على العبادة، والصلاة في المسجد، وصلاة الليل؛ فإنه يعطى بعض الهبات، ويعطى شيء من النور، (أشراف أمتي: حملة القرآن، وأصحاب الليل).. وإذا به يأخذه الغرور والتعالي على الخلق، ويقصر في واجباته الأسرية والاجتماعية..
وحاله كما يقول الشاعر:
سقوني شراب الحب ولو سَقوا *** ما سقوني جبال حنين لغنت
إن رب العالمين يعطي الإنسان الذي يجاهد في هذا الطريق جرعة من هذا الشراب الصافي، ولكن أيضاً يطلب منه أن لا يسكر ذلك السكر الذي يذهله عن وظيفته الشرعية.. ومن المعلوم أن النبي الأكرم (ص) من أعظم معجزاته ليس شق القمر فحسب، وإنما مقدرته على التنزل والتعايش مع أهل الدنيا، وهو الذي كان يعيش ما يعيش من عوالم القرب الإلهي، وهو الذي عرج به إلى السماء وكان قاب قوسين أو أدنى من رب العالمين.. وإذا به يهبط إلى الأرض؛ ليعيش بعض المشاكل مع زوجاته، ومع أصحابه، ومع جفاة الجاهلية والأعراب.. وكان يتحمل منهم ما يتحمل، هنا عظمة النبي (ص)..
إن علينا أن ننتبه إلى مكائد الشيطان اللعين، وأن المهم عنده أن يكون الإنسان ماشيا مشي الاعرج، سواءً برجله اليمنى أو برجله اليسرى.. إن البعض قد يعطى بعض النفحات وبعض الجوائز، ولكن -مع الأسف- لا يعلم قدر هذه الجائزة، فيتعالى على الناس، ويتعالى على الزوجة، ويترك واجبه الاجتماعي، يكلم فلا يجيب!.. يسلم عليه فلا يتقن الرد على السلام!.. هو كان صاحب خدمة اجتماعية -يسد ثغراً من ثغور المسلمين، وله نشاط اجتماعي في هداية الخلق- وإذا به غاب عن الأنظار، بحجة إنهاء الختمة الفلانية والورد الكذائي، وأن الناس جهلة وفي ضلال، ويدخلون عليه الظلمة وما شابه ذلك!.. وإذ به يعيش حالة من حالات التفرعن والعلو، وهنا بداية النهاية..
والحال أن المقياس فى الفوز والنجاح هو سيرة أئمتنا (ع) -هؤلاء القمم والذين نحن بحركتنا إلى الله -عزوجل- نحاول أن نجاري هذه القمم ونقترب منها- وما هي أخلاقياتهم، وكيف كانوا رحمة للعالمين!..
دخل سفيان الثوري على الصادق (ع)، فرآه متغير اللون فسأله عن ذلك فقال: كنت نهيتُ أن يصعدوا فوق البيت، فدخلتُ فإذا جارية من جواري ممن تُربي بعض ولدي قد صعدت في سلم والصبي معها، فلما بصرتْ بي ارتعدتْ وتحيّرتْ وسقط الصبي إلى الأرض فمات.. فما تغير لوني لموت الصبي، وإنما تغير لوني لما أدخلتُ عليها من الرعب!..
وكان (ع) قال لها: أنت حرة لوجه الله، لا بأس عليكِ - مرتين -.
إن الإمام (ع) لم يتحمل إدخاله الرعب على جارية خالفت أوامره للحظات، وقد كان في مقابل ذلك موت ابنه، الذي لعله لو عاش لكان هناك ملايين الناس من نسله.. ولطالما أدخلنا الرعب على قلوب زوجاتنا، لنقص في ملح الطعام، وتقصير في غسل اللباس وغيره!.. حتى أن البعض يعيش حالة الفخر لإدخاله الرعب على أفراد منزله، ويعتبر هذا من صور الرجولة!..
وعليه، فالذي يحب أن يسلك وادي العشق الإلهي، لابد وأن يكون متخففاً من مظالم العباد، والذي في عنقه مظلمة لزوجة أو لقريب أو لرحم أو لغيره، فإن هذا الإنسان لا يسمو، وإن تقدم ورأى بعض ما يرى، ولكنه لا يقرب إلى ذلك المقام.
ومن المعلوم أن السامري قبض قبضة من أثر الرسول وألقاها في الحلي والذهب -الذي كان موجودا- وتحول إلى عجل له خوار.. لعل مضمون بعض النصوص: أن هذا الذهب الذي تحول إلى عجل -يعبد من دون إله موسى- كان ذهبا مسروقا من بني اسرائيل، ومع أن الذي سرق منهم كفرة فجرة فراعنة، ولكن المال الحرام فى يوم من الأيام يظهر أثره، وهذا العمل في الواقع مادته الأولية هي الأموال المسروقة..
يقال بأنه في بلاد الغرب البعض عندهم عادة، وهي أنه إذا وجد خلاف بين الزوج وزوجته، فإنهما قبل أن يأويان إلى الفراش يتصافيان، ويتسامح كل منهما من الآخر.. أو لسنا نحن أولى بهذه الصفة الإلهية وهي صفة التسامح والمغفرة؟.. فإذا كانت هذه حقيقة ، فإنها عادة جداً راقية، أن يفتح الإنسان يومه بملف جديد خالٍ من مشاكل وويلات الأمس.

- إن المشكلة في حياتنا -نحن شيعة أهل البيت (ع)- ليس هو النقص في المقتضيات، إذ أن موجبات الفوز كثيرة، حيث تمر علينا مواسم عبادية كثيرة: في محرم وصفر، وشهر رمضان وموسم الحج، وإنما المشكلة في وجود الموانع.. والبعض لعله من نصف شعبان وهو ينتقل من زيارة إلى صوم، وإحياء لليالي القدر، إلى حج، إلى إحياء الغدير، إلى إقامة عزاء الحسين (ع) شهرين.. فهو في ستة أشهر من السنة بين ذكر وطاعة ومناجاة وتوسل.. ولكن ما إن ينتهي شهر صفر ويهل هلال ربيع الأول، فإنك لو نظرت إليه فإنك لا تكاد تجد تغييراً في وجوده، أين آثار هذه العبادة وهذه البركات؟!..
وبتعبير بعض علمائنا الأجلاء: أن البعض من مسرفي الأموال، يعطى المال فيسرفه.. والبعض من مسرفي الأنوار، يعطى النور فيضيعه، يعطى النور ليلاً فيفرط فيه نهاراً؛ بنظرة ساهية، أو بكلمة لاغية..
والحال بأن الأمر خطير جداً، فإن التفريط في النور من موجبات حلول النقمة والغضب الإلهي، ولنتأمل في هذا الحديث المخيف عن الرسول الأكرم (ص): (إنّ الرجل يتكلّم بالكلمة يُضحك بها الناس، يهوي بها أبعد من الثريا).. فالإنسان قد وصل إلى الثريا بعبادته: ختمةً، وزيارةً، بورعه وتقواه.. ولكن لزلة من الزلات يهوي بها أبعد من الثريا، ولقد رأيت شخصياً من سقط أبعد مما بعد الثريا:
كان هنالك رجل على قمة التقوى والتدين، ولديه ملكات جداً جميلة، ويكثر من زيارة المعصومين (ع)، وكان كريماً قلما رأيت مثله في الكرم والسخاء.. افتقدته من مجالس المؤمنين، فدفعني الفضول أن اتصل به، وطلبت منه اللقاء.. فقال: من الأفضل لك أن لا تراني!.. فأكدت عليه الطلب باللقاء!.. وإذا بي أرى في سيمائه سيماء أهل الفسق والفجور.. ثم صرح لي بأن أعصابه لا تتحمل الصلاة، فكلما أراد أن يقف بين يدي الله -عزوجل- لا يستطيع.. فيا له من أمر عجيب!.. فسألته عن السبب الذي أوصله إلى هذه الحالة.. فقال: المعاصي والذنوب!.. ولعله ذكر معصية ارتكبها لأول مرة، ولكن الله -عزوجل- آخذه بهذه المعصية، فسقط وسقط.. وقبل فترة قصيرة التقيت به، وإذا به في حالة يرثى لها ويستحق أن يشفق عليه!..
فإذن، نحن لا نعلم متى يأتي الغضب الإلهي، وخاصة للذين أعطوا شيئاً من حلاوة القرب، ولو أن الملاحظ -مع الأسف الشديد- أن الإنسان يفرط بسرعة في المكاسب التي اكتسبها في الموسم، وذلك بمجرد الخروج منه.. تعجبني هذه المناجاة الفطرية لأحد العلماء الأجلاء: (يا ربي!.. أنا لا أريد هبات معنوية، وإذا أعطيتنى فاحفظها لي، وإلا فماذا أفعل بهبة تعطنيها ثم تآخذها مني)؟!..

- ان من المناسب عند زيارة المعصومين (ع) قراءة زيارة الوداع، وأن يقرأ هذه الفقرات ويكررها عشرة أو عشرين مرة بدموع جارية: (اجعلوني من همكم، وصيروني في حزبكم، وأدخلوني في شفاعتكم، واذكروني عند ربكم)!..
فلو استجيبت له هذه المضامين فإنه في ألف خير، ولا يحتاج بعد ذلك أن يحمل هم السير إلى الله تعالى، وأن يتعذر بأن هذا الكلام جميل جداً ومثير، ولكن من الذي يأخذ بيدي؟.. وهذه كليات والحياة كلها مفترق طرقات، وأنا في جزئيات العيش ماذا أعمل؟.. عندما أقف أمام مفترق الطرق ماذا أختار؟.. من أصادق؟.. ومن أجالس؟.. ولمن أنتمي؟..
أقول: إن الذي يريد أن يصل إلى النور الإلهي، فليسأل مولاه أن يتبناه بالرعاية.. فإن خير الزاد في هذا الطريق، هو أن يطلب من الإمام ذلك، وليقل له:
يا مولاي أوليس النبي وعلي (ع) أبوا هذه الأمة؟!.. وكل معصوم يمثل دور الأب، ونحن يا مولاي نفتقد رعايتك، ونحن أيتام في غيابك، تائهون لا نعرف في أي السبل نسير، فتبنانا برعايتك وتعهدنا بألطفاك وتسديداتك!..
وقد يقول قائل: كيف يتفقدني الإمام بالرعاية؟.. هذا شأنه، وهذا أمره.. نعم، الإمام له في كل عصر وزمان جماعة يتبناهم بالرعاية ولو من بعيد..
اشتكى لي شاب يسكن إحدى المشاهد المشرفة، بعدم وجود المرشد والدليل الذي يأخذ بيده إلى الله عزوجل، فاستنكرت عليه ذلك، فكيف وهو في جوار المعصوم -الذي هو حي عند الله مرزوق- ويشتكي من عدم وجود المربي؟!..
وقلت له: إن الفرق بين الإمام الحي والإمام الشهيد، كالفرق بين الراكب والراجل.. فالإمام وهو في هذه الدنيا كان مع دابته -وهو هذا البدن- وبعد أن توفاه الله -عزوجل- نزل من هذا البدن وأصبح طليقاً.. ومن المعلوم أن الإنسان في الدنيا يكون مقيداً ومحدوداً بقوانين المادة، بينما في عالم البرزخ فإن قدرته أكثر بكثير قياساً إلى زمان حياته..
واقترحت عليه أن يذهب كل يوم إلى الحرم، ويجلس جلسة المتأدب في هيئة المستفيد، ويتفكر ويتأمل.. إذ ليس من الضروري أن يسمع كلام الإمام أو يراه، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة عن الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } فالمعصوم (ع) أولى من اللعين بهذه الخاصية.. إن المعصوم أيضاً يرانا هو وآباؤه وأبناؤه من حيث لا نراهم..
وفعلاً، عمل بالنصيحة، وبعد فترة التقيت به، وإذا به قد وصل ببركات هذه الأمور إلى مرحلة المعية الإلهية، وقد كان سابقاً يعيش حالة الصعود والنزول؛ الإقبال والإدبار.. ومن الطريف أنه مرّ بأزمة، وإذا هو يعيش حالة التردد أن يسأل الله -عزوجل- ليكشفها عنه أم لا!.. ويقول: لعل رب العالمين يحب أن يرانى في هذه الأزمة!.. فلننظر إلى أي درجة وصل هذا الإنسان من برودة الأعصاب وراحة البال!.. وأحدنا -مع الأسف- تنتابه أزيمة، وكأن السماوات أطبقت عليه!..

- إن من أهم عناصر الزاد في الطريق إلى الله تعالى، هو ما يسمى بالحب الباطني.. فالذي لا حب له، ولا استذواق له، لا سير له؛ لأنه لا يجد ما يدفعه إلى الأمام، وهذا الذي نجده في عشاق الهوى وفي عشاق الفتيات والفانيات، هو هذه الصورة الجميلة في الباطن.. جاءني شاب وأظهر غرامه بفتاة إلى حد الجنون، وطلب مني التوسط له عند الفتاة، ولم يمكن ذلك.. فسألت بعض المحارم أن يذهبوا وينظروا إلى هذه الفتاة، وأنه ما هذا الجمال الذي جعله يهيم هيمان المجانين في جمالها.. وإذا ليس هنالك ما يلفت، وإن الجمال الذي جعله يعيش ما يعيش فيه من الهوى القاتل، ليس إلا في عينه هو لا غير.. ومن اللطيف أنه في كل ليلة يقف تحت العمارة وينظر إلى شقتها إلى أن تفتح له الستار وينظر إليها، فيهدأ باله ويذهب إلى بيته!.. فهذه صلاة ليله في كل ليلة، ولعله بقي أربع سنوات على هذه الحال..
أقول: مسكين ابن آدم!.. هذا عاشق لوجه تمثل شبرا في شبر، هكذا يقف ليصلي صلاة ليله على حسب مزاجه لسنوات.. ونحن للوصول إلى العشق الإلهي، لا نكلف أنفسنا أن نصلي ركيعات في جوف الليل!..
والسبب واضح: أنه لا نرى شيئاً في قلوبنا، لا نرى لا جمالاً ولا كمالاً.. ولكن هنيئاً لمن تجلى له الرب في جوف الليل، أو في سفرة، أو في عمرة، أو في حجة!.. إن رب العالمين إذا أراد أن يجذب عبده إليه، يتجلى له في العمر مرة واحدة، فيجعله يهيم طلباً لذلك الجلال والجمال.. فكيف نصل إلى هذا الأمر، وكيف نقدح في أنفسنا هذه الصورة، إن شاء الله سنذكر ذلك في الليالي القادمة..




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://krar-hidri.yoo7.com/profile?mode=editprofile
الراية الفاطمية
مدير عام
الراية الفاطمية


عدد المساهمات : 584
تاريخ التسجيل : 28/05/2008

سفر في الطريق إلى الله تعالى Empty
مُساهمةموضوع: رد: سفر في الطريق إلى الله تعالى   سفر في الطريق إلى الله تعالى I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 15, 2009 3:42 am

المحاضرة 6 : الاعتراف بالواقع السيئ



- إن غاية خلق الله –عز وجل- لعباده، هو إيصالهم إلى الكمال النهائي الذي يحقق لهم السعادة الأبدية، فقد خلقهم تفضلاً منه تعالى، لا لحاجة منه إليهم -وهو سبحانه الغني المطلق- وإنما لينعموا بفضله وخيره.. خلقهم للبقاء لا للفناء، ويؤيد ذلك هذا الحديث القدسي: (كنت كنزا مخفياً، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأن أعرف).. إن رب العالمين مستغرق في عزه وجلاله وكماله، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، فهو إله وإن لم يعبد من قبل أي مخلوق، وسيأتي يوم القيام وينادي فيه: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟.. وإذا بالسائل هو نفسه المجيب: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.. إن ربا بهذه العظمة والقدرة وبهذه الملكات، ألا يجدر بنا أن لا نلتفت إلى سواه؟!..

فإن بيده كل حاجاتنا وكل ما نريد، وعنده خزائن كل شيء: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}.. ولكنه –تعالى- ينزل بقدر، ولا يعطي إلا عن استحقاق..

ومن الخسران أن يرتبط الإنسان بغير الله تعالى.. أحد العلماء الكبار كان يقول: كم من القبيح أن نرى فقيراً يستجدي فقيرا مثله!.. فالذين في الحياة الدنيا يجعلون عيونهم على الغير وأملهم بالغير، فهؤلاء مساكين، ورب العالمين يقول في شأنهم: (لأقطعن أمل كل مؤمل غيري).. وهذا لا يعني أن الإنسان لا يركن إلى الناس، ولكن عليه أن لا ينسى أن الله –تعالى- هو السبب لكل ذي سبب، وهو سبب من لا سبب له..



- الحمد لله أن وفقنا لأن نفتح قلوب عباده على ذكره تعالى.. ومن المتوقع -إن شاء الله- بعد هذه الأحاديث المباركة، أن نجد من قد غيّر مساره في الحياة، وقد رأيت في هذا العام بعض الوجوه الخاشعة من الذين تأثروا وتابعونا في محرم الماضي، ويبدو -بحمد لله- أن هنالك نفوسا متعطشة للمعاني الإلهية. .ومن أفضل البلاد المناسبة لزرع التكامل النفسي هي البلاد المترفة، التي يصل فيها العبد إلى بغيته، لأن الجميع وصل إلى طريق مسدود، والدنيا تذوقها بجميع ما فيها من اللذائذ، ولم يترك متعة في الحياة إلا وقد ارتكبها.. أحدهم راجعني وقال: بأنه جرب أنواع اللذائذ حتى ملَّها، وما بقيت لذة في هذا الوجود لم يجربها، ولم يصل إلى شيء!.. بل أنه يعيش الاكتئاب، والضيق، والتبرم، وحالة من حالات الملل الباطني.. ومن المعلوم بأن جو الاكتئاب، وأغلب الحالات النفسية المرضية متفشية في الأغنياء أكثر من الفقراء.. فما دام أن البعض قد جرب كل متع الحياة الدنيا حتى الملل، فليبدأ عالماً جديداً، فهو سافر إلى ما سافر، فليبدأ سفرة أخرى، وهذه هي السفرة النهائية!..


- لو التفت الإنسان إلى باطنه ونظر إلى تركيبة نفسه، لاكتشف أن هنالك طفلا في وجوده -فظاهره إنسان ذا شخصية راقية، له مقام ودور مميز في المجتمع، إلا أن واقعه شيء آخر- وهو هذا الذي يدفعه لهذه الحركات والاستمتاعات التي هي دون مستوى الإنسان الراقي الكامل.. إنسان تنازعه نفسه على قطعة حلوى، وإذا به يقطع المسافات لأجل أن يشتريها ويأكلها!..

وعليه، لابد للإنسان أن يحاول تهذيب نفسه وتربيتها، وأن يحاول أن يصعد بها إلى مستوى البلوغ، بحيث لا ترى متاع الدنيا مغرياً كثيراً..

إن الإنسان الذي يدعي أنه في سفر إلى الله تعالى، ويجعل همه تغيير أثاث المنزل، وفي كل سنة لابد أن يغير دابته، ويسعى إلى المتاع الذي لا ضرورة له.. فهذا الإنسان لن يصل إلى شيء، وخاصة في مجال الأخوات المؤمنات، فمن الملاحظ أن البعض منهن لا ينقصها الشوق ولا العمل ولا الزيارات ولا حتى الدخول في الحوزات، ولكن تدور حول حلقة مفرغة، لأن حب الدنيا لا يزال متغلغلاً في الوجود.. فليس المطلوب هو ترك الدنيا، (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً بل الزهد أن لا يملكك شيء).. والدليل على ذلك هو حالة التأذي عند فقد متاع من متاع الدنيا، فالذي يتعلق قلبه بسبحة أو بخاتم يضيع منه، فهذا الإنسان لن يصل إلى درجة من درجات الكمال.. والقرآن الكريم قد أشار إلى ذلك، قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.. ومصداق مد الأعين، النظر يميناً وشمالاً إلى هذه البيوت المترفة، التي البعض من هذه البيوت وبال على أصحابها يوم القيامة؛ لأنه بنى زيادة على حاجته، وبنى من أموال فيها حق الإمام والفقراء والمساكين، فسيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة.. وبعض الأغنياء في الآخرة يتمنى لو أنه كان فقيراً، لأن من خف ماله خف حسابه يوم القيامة..

فإذن الإنسان لابد له من مراقبة سلوك هذا الطفل الذي في وجوده، حتى لا يأتي يوم من الأيام ويتحكم في مملكته هذا الطفل المراهق، الذي لا يعرف إلا الحلوى والطعام والمتع المحللة والمحرمة.. وإذا أصبح مالكاً لمملكة الوجود، فإنه في حالة يرثى لها.. فقبل أن يتحرك الإنسان إلى الله –تعالى- عليه أن يؤدب هذا الطفل، وهذه التعاليم الشرعية من الصيام والحج والجهاد وغيره، من باب تقليص نفوذ هذا الطفل المشاكس في مملكة البدن، وكلما قلصت نشاطه كلما تضخم الجانب الآخر، ألا وهو جانب العقل والهدى في وجود الإنسان..



- إن السفر إلى الله –تعالى- فيه موانع وعقبات وقطاع طرق كثيرون، تواجه الإنسان السائر وتقف في طريقه، ومن هنا ينبغي له أن يعرف عدوه حتى يحذره في مقام العمل.. ومن المعلوم أن أكبر عدو في هذا الطريق هو الشيطان الرجيم، الذي أقسم أن يغوي بني آدم: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً}.. وتعبيره تعبير مخيف وضخم، ورب العالمين لو كان يرى أن الشيطان يبالغ وليست له القدرة على ذلك، لعقبه بما يكذب كلامه ويؤكد له أنه دون ذلك، والحال بأن القرآن الكريم لم ينفِ هذا المعنى بل كأنه يقرره!..
إن البعض الذي يخاف من الجن والشبح والسحر وغيرهم، فليخف من الشيطان؛ لأنه حقيقة قائمة حية، هذا الشيء الذي لا ينكر.. ورد عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق).. فكيف يصل الدم إلى كل خلية من خلايا الدم، ولولا ذلك لماتت الخلية، كذلك الشيطان فإنه متغلغل في وجود بني آدم، ويشاركه في كل شيء إذا نسي التسمية: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}..
وهو وجود غريب خفي، وله خبرة آلاف السنين.. فلو أن إنساناً مارس عملاً سنة أو سنتين أو عشرين سنة، تراه يصبح خبيراً بذلك العمل.. فكيف بموجود تمرس في إغواء بني آدم آلاف السنين، وشغله لم يقتصر على المساكين والمستضعفين، بل أنه كان يحاول حتى مع الأنبياء والمرسلين؟!.. وأول ضربة ضربها نجح فيها، ألا وهو أبونا آدم حيث أخرجه من الجنة..

وللعلم هناك نص عجيب مضمونه: بأن الشيطان بلغ مرتبة الوجاهة بين الملائكة، حتى أصبح خطيب الملائكة!.. وكان يمضي آلاف السنين في ركعة أو في سجدة، أضف إلى خطاباته، وعلمه..
يقول الشاعر:

لو كان للعلم من دون التقى شرف *** لكان أشرف خلق الله إبليس

موجود قوي وداهية، وفي أعلى درجات العتو والتكبر إلى درجة مذهلة، وهذا الحديث يكشف لنا مدى تفرعنه وعدائه لبني آدم:

أتى إبليس نوح لما ركب السفينة فقال له نوح: من أنت؟.. قال: أنا إبليس.. قال: فما جاء بك؟.. قال: جئت تسأل ربك: هل لي من توبة؟.. فأوحى الله إليه: أنّ توبته أن يأتي قبر آدم فيسجد له.. قال: أما أنا لم أسجد له حيّاً أسجد له ميتاً؟.. قال فاستكبر وكان من الكافرين..



- إن الإقبال على المعاني الإلهية والعزم على تغيير وجهة الحياة مما يبعث السرور على القلب..لا نعني بذلك التغيير أفقياً بل التغيير عمودياً، فالكل في طريق مستقيم، كالطائرة التي وقفت على مدرج المطار.. ولكن نحن نريد أن نحلق لا أن نبقى على ما نحن عليه، ومن المعلوم أن (الصلاة معراج كل مؤمن) أي أن الصلاة من أدوات العروج، والمطلوب منا أن نكون من أهل العروج..

ولكن هنالك خوفا وهو أن الإنسان إذا سمع آيات الله، وبنى على أن يغير مسيرته، فإن الشياطين تتكالب عليه؛ لأنه كان سابقاً جالسا مرتاحا على مدرج المطار، لا في رياح معاكسة ولا في مطبات هوائية، ولكن بمجرد أن يطير تبدأ العقبات والمطبات الجوية والرياح المعاكسة.. والسقوط عندئذ إذا ارتفع الإنسان أمتار على وجه الأرض فإنه مدمر!..

في بعض النصوص: أن الشيطان عنده ملفات الخلق جميعاً، والذي يفهم من الروايات أن له القدرة على التكاثر الذاتي من دون تزواج، ولكل إنسان له من له من الشياطين..

وقد أشار القرآن الكريم إلى أن البعض له شيطان متخصص به: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }.. فالبعض يخاف من الجني التابع، وهذه كلها أوهام وأباطيل، والصحيح هو الشيطان التابع..

ومن المعلوم أن العشى مرض يصيب الإنسان، وأن المصاب به لا يستطيع الرؤية في الليل.. والملاحظ أن القرآن الكريم استخدم هذه اللفظة: {ومن يعشُ} ولم يقل: (ومن يكفر بالله)..أي أن الذي يغطي نظره عن رؤية ذكر الله تعالى، فإن النتيجة هي أن يكون الشيطان رفيقاً له في كل أحواله.. ويا له من أمر مخيف!..
ومضمون بعض الراويات تقول: أن الشيطان واضع خرطومه على قلب بني آدم يمده بالفساد وما يوجب الانحراف، فإذا ذكر الله تعالى جمع خرطومه -أي خنس- ومن هنا سمي بالوسواس الخناس -أي الكثير الوسوسة والانقباض- فإذن، كيف نتسلح ضد هذا العدو اللعين؟..



- أولاً: الاعتراف بالعجز والالتجاء الحقيقي بالله عزوجل (الاستعاذة).. ولا نعني بذلك أن يمسك الإنسان سبحة في يده ويكرر الاستعاذة مئة مرة أو غيره.. إن المفاهيم القلبية تستلزم استشعاراً في القلب، والذي يحوَل إلى حركة في الخارج، وليست فقط ألفاظا تمرر على اللسان.. فالإنسان التائب -مثلاً- هل يكفيه أن يمسك سبحة ويكرر الاستغفار كذا مرة؟!.. أم أنه مطالب بأمور تؤكد توبته، وتترجم ما يعيشه من الندامة الباطنية، وتثبت صدق نيته وعزمه على ترك الذنب؟!.. ولتقريب معنى الاستعاذة نضرب هذا المثال:

لو أن إنساناً في وسط صحراء قاحلة، وحوله الحيوانات المتوحشة، وأمامه حصن.. فلو أنه جلس وأخذ يكرر: (أعوذ بصاحب هذا الحصن) قدر ما يمكنه، فهل أن ذلك سينفعه وينجيه؟!.. بل إنه قطعاً سيضحي في بطون هذه الوحوش هو وسبحته!..

مثال آخر: من المعلوم أن السفارات في كل دولة تمثل أصحابها، والذي يذهب إلى داخل السفارة ويحتمي بها، فكأنه دخل الدولة التي تمثلها، ويكون محمياً وفقاً لقوانينها، وإذا أراد أحد أن يُخرجه لابد له أن يتفاوض مع تلك الدولة..

فإذن، الاستعاذة هي: التجاء وحركة وفرار إلى الجهة التي يرجى منها الأمان، والإنسان المستعيذ إنسان خائف ومؤمل، وهذا الشعور هو الذي يدفعه للحركة.. ولكن ما هي هذه الحركة، وكيف يصل، ومتى يدخل الحصن؟..

الإنسان المؤمن كلما تحرك نحو الله عزوجل -ذلك الحصن المنيع- قويت جوانبه الروحية والعقلية قياسأً لبقية الجوانب الأخرى، أي كلما أمكنه من سد الثغور التي ينفذ الشيطان من خلالها إلى نفسه، كلما اقترب من ذلك الحصن الإلهي، وضعف تسلط الشياطين عليه.. وهنيئاً لمن استطاع أن يدخل الحصن الإلهي، وأصبح من عباد الله المخلَصين الذين ليس للشيطان عليهم سبيلا!..

ومن الطبيعي أن الإنسان الذي لا يخاف ولا يعترف بقدرة الشيطان وكيده، أن لا يبادر بالحركة، والحال بأن القرآن الكريم في أكثر من موضع يذكِّر بعداوة الشيطان لبني آدم، ولزوم مقابلة ذلك العداء بالمثل، والحذر من الانصياع إلى أوامره.. {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} ، {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.. وعبادة الشيطان تكون بطاعة أوامره.

إن الحركات اللفظية والإكثار من الاستعاذات والعبادات أمر معين، إلا أن من الأفضل للإنسان أن يجمع بين الكم والكيف، وإذا دار الأمر بينهما فإن عليه أن يضحي بالأول على حساب الثاني، وهذا ما يشير إليه النبي الأكرم (ص) في قوله: (ركعتان مقتصدتان في تفكّرٍ، خيرٌ من قيام ليلة والقلب لاهٍ).. ومن هنا فإن بعض علماء الأخلاق ينصحون الزوار، بضرورة تخفيف الزيارة، لئلا يصدر منهم ما يوجب خلاف التأدب مع المعصوم..

وعليه، فبالإضافة إلى حالة الالتجاء الباطني، ينبغي الالتزام بما ورد من الاستعاذات الشرعية في كل صباح..وكتاب مفاتيح الجنان فيه الكثير من الاستعاذات، ومنها هذه الاستعاذة: (أعيذ نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي وإخواني في ديني، وما رزقني ربي ، وخواتيم عملي، ومن يعنيني أمره، بالله الواحد.. ثم برب الفلق.. ثم برب الناس..).. أحد تلاميذ السيد الخوئي (قده) يقول: بأنه اقترح على السيد الالتزام بالاستعاذات اليومية!.. ومن المعلوم عن علمائنا أنهم يقبلون الكلام، ولو من تلاميذهم.. ثم قال له في يوم من الأيام: أنه التزم بالمعوذات والقلاقل الأربعة، واليوم الذي يريد فيه رب العالمين أن يوقعه في بلية، ينسيه هذه المعوذات ثم تأتي البلية!.. وكأنها حجاب واقي يمنع الإنسان من الوقوع في البلاء..



- ثانياً: ضعف الهمم.. من الملاحظ -مع الأسف- أن البعض في قضايا الدنيا كله همة تحقيقاً لهدفه وأمانيه، إذ تراه يبذل قصارى جهده ويسهر الليالي يكد ويتعب.. حتى أن بعضهم -في عالم البحث العلمي- ينسى أن يأكل طعامه، والبعض ينسى زوجته وأولاده، وينام في متجره من أجل أن يرقي تجارته.. فلماذا في عالم المعنويات وفي عالم القرب إلى الله –تعالى- نفتقد هذه الهمة؟!..

إن الذي يطمح إلى قيام الليل قياماً متميزاً، فإن عليه مراقبة نفسه!.. والإقلال من المتاع في النهار، فمن المعلوم أن كثرة الطعام والشراب توجب الكسل، وكثرة النوم وتضعف الجنبة الروحية.. فإذا كانت هذه آثار الطعام الحلال، فكيف إذا كان الطعام حراماً؟!.. إن الاحتياط في المأكل أمر ضروري، وهذه الأيام القضية خطيرة.. أحد الإخوان صرح لي: أنه كان يتعامل -ولعله لسنوات- مع إحدى الجهات، ويأخذ منها لحماً لإطعام المؤمنين في المساجد والحسينيات، وفي يوم من الأيام دخل عليه بشكل فجائي، وإذا به يرى أن طوال هذه المدة كان يعطيه من اللحم الحرام!.. فعاتبه وأخذ الرجل يبكي!.. ومع الأسف أنه كان من الموالين إلا أنه حتى يربح شيئاً من المال، آثر أن يطعم الناس اللحم الحرام وفي بيوت الله بدعوى أنه محلل!.. فإلى هذه الدرجة بلغ التزوير!.. ولا يخفى أن الطعام الحرام إذا دخل الجوف وتحول إلى طاقة للجوارح والجوانح، فإن هذه الطاقة المنبعثة من هذا اللحم الحرام لا بركة فيها..

وعليه، فإنه ينبغي للمؤمن أن يعيش الجدية في الحياة، ويتزود منها بقدر حاجته، ويحرص على تقليل الطعام والشراب والمنام.. فإنه بهذا العمر المحدود سيرسم مستقبله الأبدي!..

ومع الأسف لو أنك تضغط حياة البعض، فإنك ستجد أن ساعات الجدية في حياته ساعات محدودة.. ومن المعلوم هذه المعادلة في الرياضيات: أنه لو قسمنا اللانهاية على عدد محدود، فإن الناتج يكون هو اللانهاية.. وعليه، فإن اللانهاية في الحياة الأبدية، تكتسب بهذه السنوات المحدودة من العمر في الحياة الدنيا.

وللذين بلغوا الأربعين ماذا بقي من السن المفيد؟!.. فمن المعلوم أن سنوات الإنتاج هو هذا العمر للنبي الأكرم (ص) وأمير المؤمنين والإمام الحسين (ع)، حيث كانت أعمارهم كلها في الستينات.. وإلا فما بعد الستين والسبعين فإنه عمر مليء بالأمراض والأعراض، وكل هم الإنسان فيه أن يعيش ولكن لا ينتج..
فإذن، بقي من العمر عشرون سنة.. فثلث يمضي في النوم، وثلث في الأكل والشرب وغيره، وثلث في العمل.. ولو أنك تكرر هذه العشرين سنة في مصفاة العمر، فلعل الباقي أربع أو خمس سنوات مفيدة لتجارة الآخرة، أبهذه السنوات يريد أن يحدد الأبدية؟!..

إن الجنة -بلا شك- لك أيها المؤمن الموحد الموالي المقيم لعزاء أهل البيت (ع)، وإذا لم تكن الجنة لك فلمن تكون إذن؟!..إن علينا أن نسعى للتنافس في الدرجات، وإلا فأصل الجنة محجوزة للمؤمنين جميعاً..
قيل للجواد (ع): أيّة آية في كتاب الله أرجى؟.. قال: ما يقول فيها قومك؟.. قال: يقولون: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}، قال: لكنّا أهل البيت لا نقول ذلك، قال: فأي شيء تقولون فيها؟.. قال: نقول: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة.
أي أن الرسول الأكرم (ص) يوم القيامة يعطى مقام الشفاعة، فيشفع ويشفع حتى لا يبقى موحد في النار، فكيف بمن زاد على التوحيد ما زاد؟!..

ورد في الحديث عن الرسول الأكرم (ص): أنه إذا أقبلت مولاتنا فاطمة (ع) يوم القيامة، فإن الله عز وجل يوحي إليها:

يا فاطمة!.. سليني أُعطكِ، وتمنّي عليّ أُرضك، فتقول: إلهي أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تعذّب محبّي ومحبّي عترتي بالنار، فيوحي الله إليها: يا فاطمة!.. وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام، أن لا أعذب محبيّك ومحبّي عترتك بالنار.

إن فاطمة (ع) -وبعد سنوات الحزن والكرب في الحياة الدنيا- تسأل عن أمنيتها، فإذا هي تجيب بكلمة -لو أن عرفاء التاريخ يستجدوا من فاطمة (ع) معنى التوحيد، معنى الذوبان في الله، معنى الفناء في الله.. هذه المعاني التي يكتب عنها أمثال محي الدين العربي وابن سينا وغيرهم.. ولكن فاطمة وصلت إلى الرحيق المختوم - فتقول: يا ربي أنت المنى وفوق المنى!.. ثم تطلب الشفاعة لذريتها ومحبيها، إلى أن تصل حتى إلى من أحسن إلى ذريتها، ولو لم يكن من شيعتها!..




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://krar-hidri.yoo7.com/profile?mode=editprofile
الراية الفاطمية
مدير عام
الراية الفاطمية


عدد المساهمات : 584
تاريخ التسجيل : 28/05/2008

سفر في الطريق إلى الله تعالى Empty
مُساهمةموضوع: رد: سفر في الطريق إلى الله تعالى   سفر في الطريق إلى الله تعالى I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 15, 2009 3:44 am

المحاضرة 7 : أوسع أبواب القرب هو باب الحب الإلهي


- يعتقد بعض أرباب القلوب -ولهم دليلهم- أن أولياء الدم يحضرون مجالسهم بأرواحهم الطيبة.. وهذه قضية عرفية لا غرابة فيها، وإنما الغريب والمستنكر هو عدم الحضور.. فلو أن إنساناً سمع بموت قريب له ولم يحضر مجلس الفاتحة المقام على روحه، يعلم عقلاً أن هنالك جفاء في البين.. وعليه، فلنتوجه بقلوبنا إلى مولانا صاحب الأمر (عج)، ونطلب منه بلسان الحال والمقال، أن ينظر إلينا بنظرته الكريمة، وأن يتفضل علينا بلطفه كرامة لجده الحسين (ع)، وإن كنا لا نستوجب هذه الالتفاتة، فلا قلب سليم، ولا أعمال صالحة، كلنا فقراء إلى الله تعالى، ذنوبنا بذّت الطود واعتلت..

- لا يخفى دور الشيطان اللعين في تثبيط البعض ممن تورطوا بالتوغل في المعاصي والذنوب فيما سلف من حياتهم، إذ أنه يعمل على تذكيرهم بذلك الماضي الأسود، ليبعث في نفوسهم اليأس من رحمة الله عزوجل، ويصدهم عن التحرك لتغيير واقعهم المرير، والالتفات إلى تعويض ما ضاع من العمر في الأباطيل، فما من أمر بأشد عليه من أن يخرجوا من الأوحال والمستنقعات التي كانوا فيها..
والحال بأن اليأس من الكبائر، شأنه شأن الزنا وشرب الخمر وغيره، فالإنسان بإمكانه في أي لحظة أن ينقلب على واقعه، وهو ليس بأعظم ذنباً من الحر بن يزيد الرياحي، ذلك الذي أرعب قلوب أولياء الله، من أمثال مولاتنا زينب الكبرى (ع).. ومن المعلوم أولئك السحرة الذين كانوا يمتهنون السحر الذي هو من الكبائر والموبقات، هذا فضلاً عن تجاسرهم في مواجهة نبي الله موسى (ع)، ومع ذلك فإن الله -تعالى- قد قبل توبتهم، وها نحن اليوم في المناجاة نقول: (يا قابل السحرة اقبلني)!.. فإذن، لابد من العزم والجزم على تغيير الواقع واستنزال المدد الغيبي..

- من موجبات بعث الأمل في النفوس الراغبة للوصول إلى الله تعالى، التأمل في عظيم قدرته -سبحانه وتعالى- وبديع صنعه.. من المعلوم أن الإنسان في بداية تكوينه من أقبح الموجودات وأبشعها شكلاً، وإذا به يتكامل ويتكامل، ويتحول من طور إلى طور، ليخرج لنا هذا الوجود البديع الذي لا يشبع الإنسان من النظر إليه!..
وفي عالم النبات نلاحظ كيف أن الله -عزوجل- يبعث الحياة في الأرض الميتة، وإذا بتلك البذور اليابسة تدب على وجه الأرض في غاية الحسن والجمال!..
إن رب العالمين هو الذي يحيي العظام وهي رميم، وينزل الغيث من بعد ما قنطوا، ويخرجنا من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئا.. فالرب الذي ينقش قدرته وجماله في عالم التكوين، قادر على أن يرسم الجمال في عالم الأرواح، ولكن هنالك فرق بين العالمين: وهو أن الجنين في ظلمات الأرحام بلسان حاله يسلم أمره إلى مولاه -عز وجل- ليصوره كيفما يشاء: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.. وكذلك النبتة في ظلمات الأرض فأنها تسأل الرب -تعالى- أن يحييها: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}..
وأما بالنسبة للأرواح فإن الأمر يختلف ، إذ أنه يحتاج إلى إرادة طوعية من الإنسان، فليتوسل بالله -تعالى- وليكثر الطلب: بأنه يا رب أنت الذي جملت هذا البدن، وجعلته في أحسن صورة، فجمل هذه الروح، فإنه لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، وكل من فيهما طوعاً لأمرك يا رب!..

- ليتعرض الإنسان إلى دائرة الجذب الإلهي، إلى ما يوجب له التفاتة المولى -جل وعلا- وعنايته، ويقدم ما يثبت حسن نيته وصدقه في رغبة القرب إليه تعالى.. إن مريم (ع) أدخلها الله -تعالى- في جاذبيته، وكفلها نبي من أنبيائه -وهو زكريا (ع)- كما تشير إليه هذه الآية الكريمة: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.. إن الأخوات الذين يشتكون من عدم وجود المربي والمرشد، لكون أغلبهم من الرجال، والنساء لا صلة لهم بمعاشرة الرجال والعلماء.. لينظروا إلى ما يقوله القرآن الكريم في شأن مريم: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَر ْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. إن الله -تعالى- عندما وجد مريم أهلاً لاصطفائه، هيأ لها الأسباب الموجبة للتكامل، فكان الأنبياء والأولياء يتنازعون على تربيتها، حتى خرجت القرعة باسم زكريا (ع).. ومن المعلوم أن كان عقيماً لا ذرية له، مفوضاً أمره لله -تعالى- ولم يطلب الولد، ولكنه عندما رأى مريم انفتحت شهيته: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}.. وقد استجاب رب العالمين دعوته وأعطاه يحيى، ذاك النبي العجيب، أشبه الأنبياء بسيد الشهداء (ع)، لأنه أيضاً قطع رأسه وأهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.. فكان زكريا عندما يريد أن يعظ يتأكد من خلو المجلس من يحيى ، لأنه كان يصعق في مجلس أبيه من خوف الله عزوجل.. وهكذا عوض هذا النبي العظيم..
إن السنة هي السنة، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.. فلتتأسَ الأخوات المؤمنات بمريم، ولينظرن ماذا عملت مريم؟.. هل جاهدت في الله؟.. هل قدمت مالاً؟.. هل بنت مسجداً؟.. فمن المعلوم أن بلاءات مريم كانت في أواخر التكامل، حيث ابتلاها الله -عز وجل- بحملها بالمسيح.. ولكن أم مريم قدمت قرباناً: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. فقد وقفت ما في بطنها لخدمة بيت المقدس قرباناً لله عزوجل، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}.. وهنا إشارة إلى أن البعض يعتقد أن هذه الآية فيها تفضيل لجنس الرجال على النساء، وهذا خطأ.. فالمقصود أن الذكر ليس كالأنثى في الهدف الذي كانت تريده أم مريم.. إذن، أم مريم تقدمت خطوة إلى الله عزوجل، ورب العالمين بارك فيها..

- لابد لمن يريد أن يكون منسجماً في حركته إلى الله -تعالى- أن يسعى لتحقيق الحب الإلهي في قلبه، وإلا فالذي يريد أن يسافر إلى الله -تعالى- من دون هذا العنصر، فإنه كمن يريد أن يسافر بسيارة لا محرك لها!..
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}.. إن الحب هو الإكسير الأعظم، هو الكبريت الأحمر، ومن وصل إلى دائرة الحب الإلهي فإن هذا الإنسان العاشق المتيم لا يحتاج إلى تحفيز، وإنما تحفيزه ذاتي باطني -في جوهره وفي باطنه- وطبيعة العاشق أنه يبحث عن معشوقه أينما كان..
وقد يقول قائل ما هو السبيل للوصول إلى الحب الإلهي؟..
هناك حب نظري، وهو الحب الذي يولد مع الإنسان وفي فطرته!.. فلو سئل أي طفل: من أحب إليك أبوك أم ربك؟.. فإن الطفل سيجيب بلا تأمل: ربي أحب إلي.. طبعاً هذا الكلام لا يصدق في الطفل، لأنه دعوى كبيرة، وكأنه يريد أن يقول: أن مقتضى الفطرة ومقتضى العقل والتكوين، أن يحب العلة أكثر من المعلول.. الإنسان يحب زوجته أكثر، أم يحب طبخها وغسيلها وكويها!.. الكلام في تحويل هذا الحب النظري إلى حب قلبي يتغلغل في شغاف القلب، بحيث ينظر الإنسان إلى فؤاده فلا يرى فيه حباً لغير الله..
روي أن مولاتنا زينب (ع) قالت لأبيها: أتحبنا يا أبتاه؟.. فقال (ع): وكيف لا أحبكم وأنتم ثمرة فؤادي، فقالت (ع): ياأبتاه إن الحب لله تعالى والشفقة لنا .
إن هذا الحب يبدأ تكلفاً وإلا فأين التراب ورب الأرباب!.. فمن المعلوم أن الإنسان يميل بطبعه إلى كل ما هو محسوس، فتراه يحب عسلاً يؤكل، ويحب حريراً يلمس، ويحب امرأة جميلة ترى، ويحب قطعة حلوى تدخل في جوفه.. أما أن يحب ما لا يرى، ولا يسمع، ولا يلمس، وفوق الحواس.. ومن هنا قال الشاعر:

فيك يا أعجوبة الكون *** غدا الفكر كليلا
كلمـا أقدم فكري *** فيك شبرا فر ميـلا
فيا من تحير في ذاته سواه!.. فأين هو والأنس برب العالمين، وهو الفقير الذي همه بطنه وغير ذلك؟!.. أقول: بأن الأمر يبدأ تكلفاً، أي أن الإنسان يجبر نفسه جبراً على أن يتشبه بالمحبين، فيرى ماذا يعمل المحبون ويعمل مثلهم.. والشاهد على ذلك هو حديث قرب النوافل -الذي يعتبر من الأحاديث المفتاحية في عالم العرفان، ومن الأحاديث المشهورة بين الفريقين روته السنة والشيعة-:
قال رسول الله (ص): قال الله عز وجل: (ما تقرّب إليّ عبد بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها.. إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موت عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)..
للتقريب نضرب هذا المثال:
لو أن إنساناً كان يعيش في صحراء، فإنه سيقتات على ما تخرجه تلك الأرض من الأعشاب وغيره، ولكنه عندما يقترب من القصر الملكي -قصر مالك الوجود- ويدخله مالك الوجود ساحة القرب، وإن هو لم يرَ شيئاً ولكنه دخل في منطقة القرب..
مثال آخر: من المعلوم أن الحاج عندما يكون قبل مسجد الشجرة، فإنه يكون خارج الحرم، وله أن يأكل ويشرب ويدمي وغيره، ولكنه إذا وصل إلى ميقات مسجد الشجرة تجب عليه تروك الإحرام، على الرغم أنه ما زال في الصحراء، ولم يدخل مكة، ولم يرَ الكعبة، ولكنه بإحرامه قد دخل الحرم، وأصبح في ضيافة الله.. ومن المعلوم أن الذي يتجاوز مسجد الشجرة أمتار، ثم يموت ينطبق عليه قوله تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ}.. ويموت حاجاً، لأنه دخل الحرم الإلهي الآمن.. وفي تلك الأيام القديمة كان من مسجد الشجرة إلى مكة مسيرة أيام وليالي، ولكنه دخل الحرم..
ثم إن الإنسان إذا دخل القصر الملكي، وبقي فترة مصراً على أن يبقى -ولو لم يرَ شيئاً، ولو لم يرَ حرماً- وكان صادق النية في القرب منه تعالى، فلم يكن تقربه خلاصاً من المشاكل الدنيوية، أو طمعاً في شفاء أو غيره.. بل لأنه وجد أن الله -عز وجل- هو المتحكم في وجوده، وأن إليه مرجع العباد، وأنه أهل للعبادة فعبده.. وإلا فإن الذي يدّعي الحب الإلهي فإن أول ما يواجهه هو العقبات: الأمراض العجيبة، إعراض الناس عنه، وانقلابهم عليه.. ومن المعلوم أن الشيطان إذا لم يقدر على الإنسان فإنه يؤلب عليه من حوله، ليشوش عليه ويكدر عليه صفو حياته..
فإن هو بقي بعد هذه العقبات والمزعجات مصراً جاداً -حيث أن الأغلب يسقط هنا- يفتح له الشباك قليلاً ليرى جمالاً ما وراءه جمال!..
فأين هذا الجمال من جمال الفتيات والنساء!.. ومن السخيف ما يعبر عنه هذه الأيام بملكة جمال الكون، هذه التي بعد فترة ستتحول إلى عجوز شمطاء يجوز النظر إلى وجهها لأنه بدون ريبة!..
قبل فترة رأيت صورة كانت لامرأة جميلة جداً، وقد أصابها حادث سير بسيط، فتحول وجهها إلى موجود قبيح جداً، لو أنك تنظر إليها لأعرضت بوجهك سريعاً لئلا يصيبك الغثيان!.. فهذا الجمال الذي يزول بكأس ماء حار، أو بمادة أسيدية أو بحادث سير، جمال لا يعول عليه..
وهنا كلمة للشباب: أنه عندما تريد أن تغرى بفتاة في مجال الحرام، تذكر أن جمال النساء في وجوههن، وجمال الوجه في الجلد المتماسك الجميل، ومن المعلوم أن سمك الجلد سمك مكروني، فلو خلع هذا الجلد من موضعه لرأيت ما لا يحسن ذكره.. أنا رأيت في المشرحة نساء ورجالا مخلوطات في الحوض، نعم وجوه كلها قبح؛ العضلات المشدودة، والقيح الذي يسيل.. ليس المراد هو التزهيد في الجمال البشري، ولكن هذا الأمر لا يعول عليه كثيراً، ورب العالمين هو خالق هذا الجمال في الطبيعة والنساء والرجال.
ثم إن رب العالمين بعد أن أراه شيئاً من الجمال إذا رآه صادقاً وثابت القدم، فإنه يقوم بحركة بحيث لا يمكنه الرجوع بعدها أبداً!.. فيرى الرجوع والخروج من هذا القصر إلى أين؟!.. إلى المزابل!.. إلى الصحراء القاحلة!.. إلى الشياطين المتربصة حيث الموت الأحمر!..
إن هذا الجمال الإلهي جمال مبذول لكل من يريد، ومن ساعاته في جوف الليل.. فرب العالمين إذا أراد أن يتجلى لعبد من عباده يتجلى له في جوف الليل، عندما يصير من أصحاب الليل، ويقوم كل ليلة، وقد يكون في شهر العسل، وهو يبحث كالنبي الأعظم (ص) الذي يقول تعالى في شأنه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء}.. ولكن متى يكون ذلك التجلي؟.. إن هذا الأمر بيده تعالى، فمتى ما شاء يفتح الشباك، كموسى (ع) الذي ذهب ليقتبس ناراً فإذا به يرجع نبياً.. وكما عرفنا بذلك إمامنا زين العابدين (ع) في مناجاة المحبين: (من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام عنك بدلا)؟!.. (اللهم!.. اجعلني ممن هيمت فؤاده بحبك).. إذ نلاحظ أن الخطاب كله لرب العالمين والأمر بيده، ولكن الأمر يحتاج أن يقدم قرباناً، وأن يثبت ما يثبت أنه أهل لذلك..
ومن المناسب قراءة هذه المناجاة الجميلة -التي قل نظيرها في الأدب العربي، بل حتى في أقوال المعصومين- في الأماكن الشريفة والحالات الخاصة.. فإذا وجد الإنسان غلياناً باطنياً في قلبه، فليشعل الفتيل بزناد هذه المناجاة التي تتضمن أرقى معاني الحب الإلهي..
أنا عندما أذهب إلى بعض البلاد وأواجه بعض الشباب، أسألهم عن أحوالهم وعن استقامتهم، وخاصة عندما أرى وجهاً متميزاً يتجلى نور الباطن في وجهه، مصداقاً لقوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.. سمعت عن أحدهم أنه كان يدرس في إحدى ممالك الغرب، وفي الجامعة كان هنالك فتاة متميزة وبديعة في جمالها، يتنافس عليها الشباب من الذين لا هم لهم سوى المتع الرخيصة، إلا أنها كانت تعرض عنهم، لأنها كانت تبحث عن صيد متميز، فالمتميزة لا تقبل إلا بالمتميز!.. وكان هذا الشاب متعففاً ومتعالياً عن هذه الأجواء، وفي يوم من الأيام طرقت عليه باب السكن، وقالت له: بأنه أنت الشخص المتعالي الذي تستحق أن أكون له!.. فما كان منه إلا أن واجهها بالصد وطردها قائلاً: بأن الذي قاوم في الأول يقاوم في الأخير، وأغلق الباب خلفها بقوة، وكأنه كان خائفاً أن يزل في اللحظات الأخيرة.. ثم توجه إلى الله -عزوجل- ومن ساعتها وجد حلاوة القرب في قلبه..
إن هذا الموقف جعل رب العالمين يفتح لهذا الشاب العفيف الستار قليلاً، وطبعاً هذا الستار لا يفتح دفعة واحدة وإلا لصعق كما صعق موسى (ع) من قبل، بل أنه يفتح خطوة خطوة، فالذين رأوا هذا المعنى تنتظم مسيرتهم في الحياة.
فإذن، ملخص الأمر :
أن الحب هو المحرك، وأنه يبدأ تكلفاً واعتقاداً، لأن ذلك الوجود وجود ما وراء الطبيعة والإنسان بطبعه يحب عناصر الطبيعة.. ثم الاهتمام بأداء الواجبات بحدودها وثغورها والتوسع في المستحبات، وأن صلاة الليل من أهم المستحبات في هذا المجال.. إلى أن يأتي ذلك الوقت الذي يعرفك الرب جلاله جل جلاله، وأكثر الطلب في هذا المجال، فلو استجيبت لك بعد عشرين سنة ، فأنت الفائز في مسيرتك!..
وقد يقول البعض: أن هذا الحديث حديث شيق، يشحن الصدور، ويحرك البواطن، ويجلو القلوب.. ولكن ماذا نعمل لكي لنصل إلى ما تقول؟..

- أولاً: الالتزام بصلاة أول الوقت بتوجه وخشوع..
من الضروري أن يتخذ الإنسان من الصلاة محطة أنس برب العالين، وكل هذه الأحاديث ليلتجئ إلى بحر الصلاة.. فالصوم في السنة شهر، والحج في العمر مرة، وأيام العزاء في شهر محرم عشرة أيام وتنتهي.. لكن الصلاة، نلاحظ أن النبي الأكرم (ص) يشبهها بالنهر الجاري، الذي يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات.. إن الذي يتقن صلاته ظاهراً وباطناً -قلباً وقالباً- فإن هذا الإنسان سوف يصل..
رحم الله أحد علماء النجف الكبار، وقد كان على رأس قائمة من عرفاء عصره، ألا وهو السيد علي قاضي الطباطبائي، والذي تربى على يديه الكثير من علمائنا منهم السيد صاحب الميزان، وكان يقول أن ما لديه كان من بركات أستاذه.. نقل لي أحد تلاميذيه: أنه قبيل وفاته سئل أنه ما هو الكلام الأخير في هذا الطريق، فالمواعظ كثيرة، وقد كان السيد عندما يعظ تلاميذه يخرجون كالسكارى.. فتفاجأ التلاميذ عندما قال لهم: عليكم بصلاة أول الوقت، من بين كل هذه التشريعات والمستحبات، والكلمات العرفانية المعقدة.. فمن المعلوم أن ابن سينا في كتابه "نمط العارفين" له كلمات معقدة لا تفهم، ولكن هذا السيد الجليل لخص الطريق في كلمة واحدة، وحتى أنه لم يعقب بصلاة أول الوقت الخاشعة، فالخشوع أمر آخر وأن عليهم الاحتفاظ بهذا الهيكل..
وأنا أضيف صلاة أول الوقت دائماً وأبداً وفي كل الأحوال سفراً وحضراً، بما فيها فريضة الفجر -الفريضة المظلومة- فالذي لا يصلي الفجر، كالإنسان الذي لا يأخذ المضاد الحيوي في وقته، فكيف يصلي ظهراً وليلاً وهو من الصباح غافل عن ذكر الله عزوجل ؟!.. كنا في طائرة في سفرة طويلة، وأحد المؤمنين كان بجانبي يقول أنه لا يصلي إلا عندما يصل البلاد قضاءً، ونحن توضأنا وصلينا جهة القبلة بكل ارتياح، وهذا العبد المؤمن الصالح جالس في مكانه، لم يتقدم للصلاة بين يدي الله عزوجل.. بينما رأيت أحدهم وهو في حالة غيبوبة في إحدى المستشفيات، وهو يلهج بذكر الله -عز وجل- في أوقات الصلوات.. نعم الذي تربى على صلاة أول الوقت لا يترك ذلك حتى في أخريات حياته..

- ثانياً: غض النظر..
لا شك في كون الفتن كلها تأتي من النظر، وخاصة فتنة النساء المبتلى بها فئة الشباب، وعندما نقول: الشباب.. لا نعني المراهقين، فيبدو أن هذا الميل يبقى في بني آدم حتى للستين وفوق الستين، وكأن الإنسان يرى أن غاية المتع في الدنيا هو هذه المتعة!.. لنحاول أن نفلتر أنفسنا، فإن هذا النظر الذي يدخل في جوف الإنسان، ما هو إلا سهم من سهام إبليس، كما ورد عن الرسول الأكرم (ص): (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفا من الله؛ أعطاه إيمانا يجد حلاوته في قلبه).. وعن الإمام الصادق(ع): (النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة)!..
ومن المعلوم أن أقوى القوات الأمنية في كل الدول في العالم، متمثلة في مطاراتها وموانئها وحدودها البرية، إذ أن المجرم لو دخل البلاد، فكيف يتم طرده بعد ذلك؟!.. ومن هنا كان لابد من الرقابة الدقيقة الحاسمة عند الموانئ ومنافذ الدخول.. إن العين في الإنسان تمثل حدود مملكته، وإذا هو لم يجعل رقيباً وعتيداً على هذه المنطقة، فإن الصورة إذا دخلت في باطنه فإنه سيصبح أسيراً لها..
ثم إن رب العالمين أعطانا خاصيتين في العين:
الخاصية الأولى: أعطانا جفنين، فبإمكان الإنسان أن يغمض عينيه أو يغض بصره بهما.
الخاصية الثانية: بإمكانه أن ينظر نظرة بلهاء لا تفاعل ولا تأمل فيها..
بعض الإخوان يسأل: أنه كيف يتعامل مع النساء، وهو أستاذ في الجامعة، ولديه تلميذات سافرات وغير سافرات.. أقول: إن الإنسان بإمكانه أن ينظر نظرة لا يحس من وراء ذلك شيئاً، كالفتوى المعروفة في دخول الأعراس، وهو أنه إن كان ولابد من دخول العرس وفيه الغناء والطرب، فإنه لا بأس عليه لو دخل ولكن بشرط عدم الاستماع، فالطبلة تتحرك ولكنه إذا لم يتفاعل معها، فإنه ليس بمأثوم.. نعم، الشبكية فيها صورة محرمة، ولكن هو لا يقصد ذلك.. فإذن، إذا تمكنا من السيطرة على منفذ البصر، فقد قضينا على قسم كبير من الأباطيل والمحرمات..





الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://krar-hidri.yoo7.com/profile?mode=editprofile
الراية الفاطمية
مدير عام
الراية الفاطمية


عدد المساهمات : 584
تاريخ التسجيل : 28/05/2008

سفر في الطريق إلى الله تعالى Empty
مُساهمةموضوع: رد: سفر في الطريق إلى الله تعالى   سفر في الطريق إلى الله تعالى I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 15, 2009 3:47 am

- ثالثاً: الابتعاد عن الحدة والغضب..
من المعلوم أن رب العالمين لما أراد أن يخلق بني آدم ويجعلهم خليفة له في الأرض، أن الملائكة استنكرت ذلك، وقالت: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}.. فالإفساد كناية عن قوة الشهوة، وسفك الدماء كناية عن الغضب.. وبني آدم إما هنا أو هناك.. إن بعض المؤمنين قد تخلص من الشهوات المحرمة، إما لكبر سنه، أو لكثرة مشاكله، أو لكثرة نسائه؛ ولكن مشكلته في الحدة.. وهناك إنسان مزاجه حاد، ويتكلم مع الخلق بنظرة فوقية، شامخ بأنفه، ومغرور، معجب بنفسه، ومع الأسف أن البعض قد تساعده على ذلك الأجواء العامة في هذه البلاد، ومثل هذا الإنسان -الذي يعيش شيء من التفرعن في ذاته- لا يصل إلى باب الملك، بل هو مطرود من هذا القصر الإلهي..
كان النبي يوماً ماراً في الطريق، وإذا بامرأة تكنس الطريق وكان الغبار يتناثر، فطلب منها أن تبتعد عن طريق رسول الله، فلم تكترث لهم واستمرت في عملها، فقال النبي (ص): دعوها فإنها جبارة!..
مر رسول الله (ص) في بعض طرق المدينة، وسوداء تلقط السرقين، فقيل لها: تنحّي عن طريق رسول الله (ص).. فقالت: إن الطريق لمعرض، فهمّ بها بعض القوم أن يتناولها، فقال رسول الله (ص): دعوها فإنها جبارة.
نعم، الكثيرون جبابرة بلا شيء!.. لا مال متميز، ولا منصب متميز، لا جمال ولا كمال.. لا أدري البعض يتفرعن على أي أساس؟!.. وما الذي يجعله يعيش التميز؟!.. فإذا كان المال فإن فسقة الخلق أغنى منه وممن حوله، لماذا هذا التفرعن؟.. وكما يقول أمير المؤمنين (ع): (أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة نتنة، وهو فيما بينهما يحمل العَذِرَة)!.. فالإنسان الذي بهذه المثابة هل له أن يتفرعن؟!..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://krar-hidri.yoo7.com/profile?mode=editprofile
 
سفر في الطريق إلى الله تعالى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات الراية الفاطمية :: الراية الخــــــاصة بالعلاج :: راية محط العشق الإلهي-
انتقل الى: